إلى هذا الحد نحب الحياة غالبا ما يبرز مصطلح "الإفراط في التأويل" كاتهام سهل الإطلاق عندما ننزعج من رؤية غريبة أو طرح غير معتاد، في الحقيقة لا أعرف تحديدا كيف يمكن أن يكون التأويل مفرطا بينما الغاية منه إدراك المنافذ للنص والاستماع إلى الذي لم يقله صراحة، أو بمعنى آخر، الوصول إلى مساحات أكثر رحابة تسمح بالاشتباك مع جمالية النص للمدى الأبعد، وتدخلنا إلى ذلك الذي واربت بابه البلاغة وأشارتْ إليه، أو حجبته الذاكرة والمعرفة الجاهزة. لا أفترض في الشاعر – والشاعر يعني الشاعر لا مسخه ولا بعضه – أن يكتب لفظا لا يقصده، أو أن يشير إشارة لها بُعد واحد، الشاعر يعرف جيدا – وإن كان لا يتعمد – أن المنطوق ما هو إلا ظاهر الجمال. ديوان "بالقميص الكاروهات" للشاعر مدحت منير يغري بقراءة متمهلة، إلا أن القصيدة الأولى به "من غير عكاز" تبدو وكأنها تفتح لنا عالم منير، وهو ما أعتقد أني أستحق الدخول إليه على مهل... "خمس خطوات بالظبط لباب الشقة" هكذا تبدأ القصيدة الأولى، الشقة ليست بالضرورة شقة، إلا أنها توحي بالمحدد المعلوم دائما، والودود المحبب في أحيان كثيرة. والخطوات ليست خطوات بالضرورة، إلا أنها أيضا واضحة تخبر عن فعل المسير، وتشير إلى الطريق وتغري بالوصول، رغم كونها لم تفصح هل هي لباب الشقة دخولا أم خروجا، هي خطوات – حتى الآن – مجهولة الاتجاه... وبالطبع لم تأت "الخمس" اعتباطا. الجملة الخبرية هذه أتت مفردة تعبر عن معلومة صيغت وكأنها إجابة سؤال لم نستمع إليه بعد، أو ربما هو سؤال كان في البدء، قبل الخطو، وقبل إدراك الطريق والباب وحدود المساحة وفكرة العبور أو السير. "بعدها سجادة بتاخدك من إيدك وتسلم ليك الطرقة صايبها نسيم العصر" الشاعر لا يرسم عالما، هو يرافقنا في عالم خلقه وانتهى من تحديد مسمياته بالفعل، عرفها واختار لها الأسماء وأطلقها تشكل نمطا خاصا من الجمال. السجادة/الاستقبال ناعم، هو من يستقبلك، رغم أنه في الحقيقة من استقبلك استقبلته، تماما كما أنك تتلقي من يتلقاك، وما بعد الناعم أكثر نعومة. المقطع الثاني – أيضا – في جمل خبرية أيضا، يكمل المشهد، أعتقد أننا الآن نتحرك، ونعاين الأشياء وندرك العلاقات القائمة بالفعل، ونرى... نرى ما يشير إليه الشاعر، نراه هو دون غيره؛ في رؤية الشاعر لا يوجد متن وهامش، كله واحد مترابط، وفي الحقيقة هو يعرف جيدا ما يود الإشارة إليه، وكيف يراه. البديع أن الحركة لا تأتي من الشخص في القصيدة، هو مفعول به، ولا إشارة إليه على طول النص إلى ب"ك" المخاطب، التي يطلقها صوت غير مصرح به، وكأنه هو الصوت الذي يعرف ولا يحتاج تعريفا، هو فقط يتحدث إلى هذا المخاطب وكأنه دليله، يخبره عن الوقائع بنرة مطمئنة وهادئة وإيقاع متزن، هكذا يكون الحديث عن الحقائق كما أعتقد. "من غير عكاز من فضلك" الصوت يقولها في صيغة تشبه الاعتراض أو التنبيه، أو ربما يقولها "ك" في مايشبه الرجاء، في الحقيقة، لا مانع أبدا من أن يكونا واحدا... لا أحد يحتاج العكاز، أو يتمناه. لهذا تكفي خطوات خمس، أو سنوات خمسين؛ أكثر من هذا قد يستلزم استخدام العكاز، والعكاز ليس جميلا أبدا، بل ربما هو قبيح بما يكفي لنتهرب منه ونسأل الابتعاد عنه بلطف وأدب. "الكون مستسلم والأرض معاك خطوة خطوة" لهذا تحديدا لا نحتاج للعكاز، الإيقاع متزن ومناسب ومستعد للرحلة. مازال العارف/الدليل يطمئن المسافر بجمل خبرية قصيرة تشبه التلقين، أو ربما هو يعلمه مسار الرحلة وسيناريو الطريق إلى الجديد. "ماتخافش ده امبارح نايم... في الأوضة وشجرة وحيدة بتتعرى مجرد ما بتلمس شوكها وببطء هاتشرب عرقك تشرب وتربي خيالك من بعدك" الصوت الدليل يؤكد – من زمن مجهول قبل بداية الرحلة أو على باب الوصول – أن لا شيء يدعو للخوف، وهو ما يدعو للخوف فعلا لولا أن أكمل – كاشفا – أنت الغد/غدك، وأمسك رحل، تاركا شجرة/قصيدة تحمل الجمال مرهونا بالسؤال والألم، وتستمر في إنتاجك من غير نهاية، حتى بعد رحيلك. *** النصوص كلها تحمل مفاتيها، "العكاز" هنا هو مفتاحي، تحديدا رفض وجود العكاز؛ الرحلة حتمية، والطريق حدث بالفعل، الأمر كله أن الشاعر جميل بما يكفي ليتمنى نهاية مناسبة، خفيفة، لا يثقلها زمن قائض أو رغبة حمقاء فيما هو غير موجود. الإيقاع في القصيدة أيضا علامة طريق، الشكل الذي نبتت في هذه الشجرة على لسان منير أتاح لها أن تكون خضراء دوما، منتجة للسؤال وللجمال الأصيل في هدوء يليق بشاعر/قارئ يقدر العمر والرحلة ولا يخشى السفر، ففي كله جمال. *** "من غير عكاز" خمس خطوات بالظبط لباب الشقة بعدها سجادة بتاخدك من إيدك وتسلم ليك الطرقة صايبها نسيم العصر من غير عكاز من فضلك الكون مستسلم والأرض معاك خطوة خطوة ماتخافش ده امبارح نايم... في الأوضة وشجرة وحيدة بتتعرى مجرد ما بتلمس شوكها وببطء هاتشرب عرقك تشرب وتربي خيالك من بعدك.