وسط خفوت ملحوظ لقصيدة نثر العامية المصرية في مواجهة رواج دواوين وقصائد وشعراء الأغنية، وفي ظل تراجع أصوات بعض رواد الكتابة في هذا الشكل واتجاههم لكتابة الزجل أو القصيدة التفعيلية مرة أخري، واختفاء بعضهم الآخر، الأمر الذي حدا بنفر من النقاد المتابعين، علي ندرتهم، إلي إعلان وفاة قصيدة نثر العامية المصرية، أو علي الأقل تأكيد وصولها إلي طريق مسدود. وسط كل هذا يخرج علينا الشاعر مدحت منير، وهو أحد الأصوات البارزة في هذا الشكل وفي شعر العامية بشكل عام، بديوانه الرابع (بالقميص الكاروهات) عن سلسلة ديوان الشعر العامي بالهيئة المصرية العامة للكتاب. يكتب مدحت منير ابن مدينة الإسماعيلية والمقيم بها حتي الآن الشعر منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما؛ كما نستنتج من قصائد ديوانه الأول (مكان مريح للحزن) الصادر عن سلسلة إبداعات بالهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1997، إذ يرجع تاريخ إحداها إلي عام 1981. وبالرغم من هذه الفترة الطويلة؛ إلا أنه أصدر أربعة دواوين فقط عبر عشرين عاما من النشر، وبفروق زمنية كبيرة بين كل ديوان والآخر. فصدر ديوانه الثاني (عنف ومحبة) عام 2004 عن مكتبة الأسرة، وديوانه الثالث (كان لازم نرقصها سوا) عام 2008 عن دار ميريت. علي عادته في اختيار عناوينه، يأتي عنوان ديوانه (بالقميص الكاروهات) من أحد سطور القصائد وليس عنوانا لأي منها. وتحديدا من قصيدة (منير الأول) التي يتوجه فيها بالخطاب إلي والده، أو بالأدق إلي صورته المعلقة علي الجدار: (إنت اللي اخترت / تكون علي الحيطه / بنظرة ذئب محروم / وسط غابة قديمة / هجرها الرب) ويأتي العنوان من المقطع التالي مباشرة: (دايما / بالقميص الكاروهات / وشعر صدرك / متصدر المنظر / متحفز / لريح مناسبة / تنط فيها من فوق / تاخد مكاني). ووسط هذه العلاقة المتوترة والصراع الأبدي بين الأب والابن علي احتلال المكان / الحياة، أو ربما (في تأويل مفرط) علي احتلال المشهد الكتابي، تصل الذات الشاعرة إلي الخطوط والوشائج التي تربط بين الاثنين: (كل واحد فينا اختار.... طريقة غيابه / لكن لا أنا / ولا انت / اخترنا الخطوط / اللي طالعه من وشك / وجايه من بعيد / ترسمني). رغم تمثيله للسلطة، إلا أن الأب في صورته المعلقة علي الحائط لا يرتدي كما هي العادة زيا رسميا، بل يرتدي (دايما) القميص الكاروهات. قميص يحمل ذلك النقش الذي يعود أصله إلي التنورات الأسكتلندية والذي منع الانجليز استخدامه في القرن السابع عشر بعد أن أصبح رمزا لثورة الأسكتلنديين عليهم ولشعورهم الوطني. نفس هذا النقش الذي استخدمه الأمريكيون في القرن التاسع عشر وأصبح مميزا لقمصان رعاة البقر قبل أن ينتشر استخدامه في القرن العشرين ويصبح قميصا مميزا للعمال والشباب والمطربين الرافضين للزي الرسمي. هل يمكننا بقليل من التأويل المفرط والتحليل النفسي المتعسف مقارنة صورة هذا الأب في زيه غير الرسمي وفي سطوته وهيمنته بصورة الآباء المؤسسين في شعر العامية غير الرسمي بالطبع في مقابل شعر الفصحي، وهيمنة حضورهم علي مشهد الكتابة حتي بعد رحيلهم، سواء عبر كتابتهم أو كتابة أتباعهم والسائرين علي دروبهم؟ لكن هذا الصراع لا يعكس قطيعة تامة بين الاثنين: الأب والابن؛ إذ تلعب الملامح المشتركة دورها في ربط الاثنين وملء الفراغ بينهما (بحسرة / اسمها العمر). هل يمكننا القول إن (بالقميص الكاروهات)، تلك الجملة المبتورة والتي تتطلب من القارئ إكمالها في نهج أسلوبي أثير لدي الشاعر، أقول هل يشير هذا العنوان إلي العادية والبساطة والثورية والهروب من الرسمية التي يحملها تاريخ هذا النقش ذو الخطوط والمربعات اللونية المتداخلة؟ وهل يشي هذا التداخل بما نجده من تداخل ملامح الأب والابن عبر قصائد الديوان؟ هل كانت فكرة الهروب من الرسمية تلك هي ما دفعت مصمم غلاف الكتاب: عبد الحكيم صالح إلي اختيار هذه الصورة لمنحوتة علي شكل إنسان عار يتسلق سورا في محاولة للهروب من سجن أو مدرسة أو مكان ما؟ أم ربما يحاول القفز إلي مكان آخر؟ يطالعنا ظهر الغلاف بقصيدة كاملة من قصائد الديوان هي قصيدة (عصيان). (ماكنش عندي دموع / توريها الطريق / تفضحها / تحت الشمس / وتصد عنها الزحام / ماكنش عندي رصيف / أزرعها ساعة غروب / وسحابة فوق البيت / أسميها وطن / ماكنش عندي هديل / يسهر عليه الحمام / وكسرة في كمام القميص / بتشبه عاطفة). لا تملك الذات الشاعرة هنا ما تقدمه لغائبة مجهولة، لا تملك ما يرشدها أو يفضحها أو يحميها من الزحام، لا تملك رصيفا تزرعها عليه ساعة غروب، مع ملاحظة ما يخلقه الحذف من غموض في تركيب جملة (ماكنش عندي رصيف / أزرعها ساعة غروب)، ولا تملك سحابة تظلها وتسميها الوطن..إلي آخر القصيدة. الشاعر هنا لا يقدم حلولا ولا يملكها، ربما لا يملك إلا عصيانه وتمرده عنوانا لقصيدته، وقصيدته نفسها مدخلا لديوانه. يحمل الديوان تصديرا بمثابة إهداء (أصدقاء العمر / رفاق الأيام الصعبة / واللحظات الجميلة / أحبائي / الذين رحلوا / وتركوني في منتصف الطريق / وكل من أضاء وردة في قميصي / أو رماني بحجر / كي أتحسس وجهي / وأعرف وجهتي / كونوا بخير)، ربما لا تبرز المفارقة في هذا التصدير إلا بمقارنته بتصدير الديوان السابق (كان لازم نرقصها سوا)؛ ففي الوقت الذي يجيء فيه تصدير (بالقميص الكاروهات) بالفصحي، جاء تصدير الديوان السابق بالعامية. وفي الوقت الذي امتلأ فيه تصدير الأول بالتسامح و(المحبة) نحو الأصدقاء والأحباء والأعداء، امتلأ تصدير الأخير بالكراهية و(العنف) لمخاطبين مجهولين في العموم: هاجمعكم / واحد.. واحد / مع كل حاجاتي الخاصة / وأولّع فيكم.. إلخ. يضم ديوان (بالقميص الكاروهات) ستاً وعشرين قصيدة، لا تتجاوز أطولها الثلاث صفحات (خبير الخدع المعروف) بعدد كلمات يصل إلي 169 كلمة، وأصغرها (ومرايتي) ثلاثة سطور في 9 كلمات. وطوال هذه القصائد الستة والعشرين يواصل مدحت منير اقتصاده الشديد في استخدامه للكلمات التي لا يتجاوز أي سطر فيها الست كلمات، نحن أمام شاعر يميل إلي الحذف والإيجاز أكثر من التفصيل والإسهاب، شاعر ينتقي تفاصيل المشهد بما يجعله واضحا وغائما في نفس الوقت، وعبر هذا الاقتصاد والتهذيب المستمرين للجملة يقوم منير بصياغة قصيدة محكمة المبني، قصيدة تعتمد في الأساس علي الجملة النثرية لكنها لا تقطع صلتها بالإيقاع؛ سواء الإيقاع المستمد من بنية الجملة وتكرارها أو الفواصل الصامتة بين السطور، أو الإيقاع المستمد من العروض القديمة بأوزانها وقوافيها، كما نجدها مثلا في قصيدة عصيان (ماكنش عندي رصيف / أزرعها ساعة غروب.. ما كانش عندي هديل / يسهر عليه الحمام)أو في قصيدة علي شرف الضوء: (ضل بيحضن ضل / ضل بيهجر ضل / وراجل واقف وحده بعيد / يسأل عن ضل) مع استخدام ما يحلو له من إضافات وزحافات وعلل. ومع خصوصية لغة الشاعر، تأتي كذلك خصوصية عالمه. وفي مسألة خصوصية العالم تلك تبرز قصيدة (عالم افتراضي) كنص مفتاحي داخل الديوان، إذ يخلق خيال الشاعر عالما بحريا رومانسيا مغامرا (هافترض في الناحية التانية / شط بعيد / ونخيل / وقمر / مستني لوحده)، لكنه في حركة مفارقة عند نهاية القصيدة يطالب الآخرين / الأصحاب بأن يتواطأوا معه ويشاركوا في لعبة الخيال تلك: (بس انتو كمان يا صحابي / محتاج منكم / تفترضوا البحر). القصائد هنا بمثابة مرايا للذات الشاعرة. تدخل الذات مثل (أليس في بلاد العجائب) في كل مرآة / نص، لكنها تطلب من الآخرين الدخول معها كذلك، فوراء كل مرآة / نص.. عالم. لكنه عالم تخلقه الذات عبر خيالها، قد يكون هذا العالم متصلا بتاريخ الذات الأُسَري كما في قصيدتي (منير الأول) و(ابن المهاجر)، أو بتمثلات الذات وأحلامها كما في قصائد (من بعد عبده السروجي) (كده برضه يا بيتهوفن)، (ياريتني ماطلعتش بحار)، (كلب غريب خايف من شخص غريب)، (خبير الخدع المعروف) أو بصورتها الشخصية كما في قصيدة (في الخمسين)، أو بخيالاتها الشعرية كما في قصيدتي (علي شرف الضوء) و(دا الشاعر)، أو بإسقاطاتها علي فنون الأداء كما في قصيدتي (قبل نهاية العرض) و(باتفرج علي روحي). ولأن المقام لا يتسع للدخول في العوالم الستة والعشرين التي يضمها الديوان، سأتحدث علي سبيل التمثيل عن القصائد الثلاث الأولي في الديوان. وأولهن قصيدة (من غير عكاز) التي أراها أشبه بدعوة موجهة للقارئ / المخاطب لدخول عالم، عالم مدحت منير الخادع ببساطته كونه مجرد شقة: (خمس خطوات بالظبط / لباب الشقه / بعدها سجاده / بتاخدك من إيدك / وتسلم ليك الطرقه / صايبها نسيم العصر). إن التوجيهات الإرشادية المحددة في البداية خادعة كذلك لأن هذا العالم ينكشف عن وجود مفارق أكبر: (الكون / مستسلم / والأرض / معاك / خطوه / خطوه) والماضي ينام في الداخل: (ماتخافش / ده امبارح نايم / في الأوضه). فيما تأتي الغواية أو المقصد في شجرة وحيدة تتعري بمجرد لمس شوكها، وتشرب عرق الداخل / المخاطب، وتربي خياله من بعده. وكأن هذه الشجرة / الخيال / الأنثي المغوية ستمتص منه عرقه / جهده وتقتله كأنثي العنكبوت لتربي ابنه / خياله / قصيدته من بعده. هل هذه الشجرة في التحليل الأخير هي الشعر نفسه في صورته المثلي؟ في القصيدة الثانية (كانفا) ندخل في نسيج لوحة تتحدث فيها الذات الشاعرة عن وحدتها برفقة قطة سيامي تشاركها تفاصيل الحياة اليومية دون تطفل ولا إزعاج: (أفتح باب التلاجه / تبص من بعيد / علي برد ما يخصهاش... أتكلم في التليفون / تشم السلك بأدب / وترجع / من غير اهتمام / تمدد رجليها / ف نور الأباجورة البطيء) يفضل الاثنان العزلة بعد صدمتهما في العالم الخارجي بناسه وقططه (كل واحد فينا / عزلة التاني / ومكانه الأخير) ليعودا هاربين إلي (ركن الصالة الواسع) ليتمددا في كسل تحت شمس الشتاء الكسولة أو (في نور الأباجورة البطيء). أما في قصيدة (ياريتني ماطلعتش بحار)، فنحن أمام درس في القصيدة الدائرية التي يشكل العنوان جزءا منها، والتي تقدم جانبا عكسيا للتمني؛ فبدلا من الأمنية الشائعة بأن يتحول الفرد العادي ابن الحياة الروتينية الرتيبة إلي بحَّار، أي ابن للمغامرة والعالم المفتوح غير المنتظم.. يحدث العكس: (ياريتني كنت بقيت / مثلا / شخص مهذب / ف مدينة قديمة / بيعشق أسماك الزينة / ويحب مراته / يذاكر للأولاد / في الدفا بالليل / ويصحي الصبح / ينزل م الدور الخامس / يتأمل نفسه / ف وسط الزحمة)، لكن هذا الرجل العادي يتمني بدوره أن يصبح بحَّارا في لعبة تبادل أدوار أبدية. يبني مدحت منير عبر قصائده علاقات متعددة بين الواقع والخيال، بين الكلام العادي والمجاز، بين الإيقاع المنتظم وإيقاع النثر، بين البساطة والغموض، منحازا لقيم الثقافة الكتابية المرتبطة بالشعر الحديث وقصيدة النثر أكثر من القيم الشفاهية، وهو ما صرح به بوضوح في مقال له بعنوان (العامية المصرية بين الشفاهية والكتابية.. هل نحن أدباء شعبيون؟) نشره عام 2009 في كتاب (العامية كنز الإبداع) الذي أصدره الملتقي الثاني للمَّة بيت العامية المصرية. وهو المقال الذي أنهاه بما يشبه المانيفستو وبما أري أنه يصلح خاتمة لهذه القراءة المتواضعة ومنطبقا علي شعر مدحت منير في منجزه بشكل عام وفي ديوان (بالقميص الكاروهات) بشكل خاص: (نحن مع الشعر ضد الحناجر المشهرة في الهواء. مع القصيدة التي تصنع إيقاعها ضد الإيقاع الذي يصنع قصيدته. مع الأسئلة ضد الإجابات النهائية. مع نص يحقق كل من كاتبه وقارئه إنسانيتهما من خلاله، وليس نصا معلما يدعي أنه يسعي إلي توجيه جمهوره إلي حيث يريد).