محمد جعفر، صحفي ومترجم شاب، يكتب الشعر منذ سنوات طويلة، ولكنه كان من النضج بحيث لم ينجرف مع التيار الذي استفحل في الفترة الأخيرة وانبثقت عنه دواوين شعرية لا تعد ولا تحصي، صبر علي تجربته وانتظر حتي سن الثلاثين كي يصدر ديوانه الأول " معجم المقامات " الذي جاء مختلفاً ولافتاً علي نحو كبير لما فيه من تقسيم مختلف للقصائد تبعاً للمقامات الموسيقية، وحالة مختلفة من المزج بين العامية والفصحي، للدرجة التي يتوجب علي القاريء فيها أن يصحب معه معجماً كي يفهم بعض هذه المفردات، كما أنه لم يضع علي الكتاب كلمة ديوان كما يحدث دائماً، وإنما اكتفي بوضع كلمة " شعر " وفقط، وكأنه يريد أن يؤكد علي جملته الشعرية البديعة "والشعر واضحة ملامحه كالشمس في شهر مارس". بدايةً: لماذا لم يتم تصدير الديوان بجملة " ديوان أو أشعار بالعامية المصرية " حيث كُتبت فقط كلمة "شعر"؟ ربما أردت وبشكل واضح أن يشعر القاريء بمدي ولعي بالتجريب، الذي تمخضت عنه تجربتي الأولي، أو تستطيع أن تقول أني أردت التمهيد لنوع غير شائع من المحتوي الذي لا تستطيع حمله غير تلك اللغة، اللغة هنا الوعاء لا الأداة، ولم أصطنعها لنفسي ولا أجرؤ، ولكن هذه اللغة الوسيطة حية وترزق في جنبات الصعيد وغيره من أقاليم المحروسة، فإن كانت "العامية" هي اللغة التي اصطلح عليها وكتبها أعلامها، فأنا لا أراها مناسبة للمتن، ولكلٍ عاميتهُ وفصحاه. استشهدت بثلاثة من أعلام الصوفية في مستهل الديوان.. حدثني لو كانت لك علاقة بالتصوف وما رأيك فيها كطريقة من طرق الوصل باتجاه الإله؟ لا أدّعي وصلًا بالصوفية كمذهب والتصوف كممارسة روحية، إنما وإن أشرنا إلي أدب التصوف، أو الشعراء والكتّاب المتصوفة، نعم، أستأنس بشعرهم ونثرهم، وعلي من لم يشرب من هذا البئر أن يلهث إليه ليجد ماء شعريًا زلالا، وعن إشارتي لمقولات ابن عربي والحلاج والنفري في مستهل المعجم، فأقول أني وإن وصفت تجربتي الأولي بالذاتية، فإن هذه الذات تتماهي مع تلك الرؤي التي اختزلها هؤلاء الأعلام في مقولاتهم. قسمت ديوانك علي أساس المقامات الموسيقية ولكنك لم تضع عناوين للقصائد.. لماذا؟ آثرت أن يتسق بناء هيكل الديوان دلالةً ولغةً وغايةً مع اسمه (معجم المقامات) فعلي صراط أو وتر (العجم والصبا والحجاز والسيكاه والنهاوند والبياتي والكرد والراست) مشت ( روحي وعشقي ووجدي وجسدي وناسي وشعري وغنائي وشجني) غير عابئ بدلالة ووقع التعريف الأكاديمي للمقام؛ كي يطرب لها مستمع ويعي لها قاريء، بلغة وسيطة (غير فسيفسائية) تطمح أن تكون "غجرية" كالموسيقي يفهمها ويشعر بحالتها من سمعها علي اختلاف لهجته وخلفياته الثقافية. لقد أهديت مقطعين لأمي وإبني المنتظر بالإضافة لنص الخريف ووضعت عناوين لتلك المقطوعات الشعرية، بما لايخل بماء المحتوي قدر الإمكان،في إشارة مني للقاريء أن ينتبه لتلك المقاطع التي تمسني بشكل بالغ. تعج القصائد بحشد من المفردات الفصحي بشكل لافت.. ألا تري أن ذلك يُثقل علي قصيدة العامية وقارئها ويحملهما ما لا طاقة لهما به؟ حاولتُ خلال الديوان أن أغازل الفصحي "العمودي والتفعيلة والنثر"، ولكني كنت حريصًا علي تذويب هذا التراث في "ماجور" الموال والمربع علي بحور شعرية بعضها مهجور وآخر يصعب حقنه بالشاعرية لصخبه وسرعته، وما بين (المعجم/ اللغة) و (المقامات / الإيقاع) حاولت أن تخرج مجموعتي الأولي بشكل إن لم يكن جديداً فهو بالأحري يسعي وراء ذلك، إيمانًا مني بأن (اللغة/ الوعاء) حتي وإن لم تتخل عن شعبيتها قادرة علي شق طريق للعامية المصرية لتكون علي قدر ما أراها ترهص إليه من صدارة بعكس (اللغة/ الأداة) التي أفرغتها من مضمونها ودورها فارتضت لنفسها مرتبة الرديف لا الفارس،أما الحديث عن محمولات القصيدة والتصنيفات والثنائيات، فلا أدعي أني بالفعل "شاعر عامية" بالشكل المتعارف عليه، لذلك وصفت الديوان علي غلافه بكلمة "شعر"، ولا أدعي أيضًا أني صاحب مدرسة وليدة، أو حتي مؤسس بها. أنا لا يشغلني "ما حول الكتابة" بقدر انشغالي بها. وما هدفك من وراء ذلك؟ أطمح في أن أعيد كتابة الديوان بالفرنسية، كي لا يفتقد كثيرًا من محسناته، ويبقي منه فقط بعض المعاني والمشتركات بيننا وبين أهل اللغات الأخري، فمن الصعب أن تجد مترجمًا يقرأك ليغوص داخلك ويكتب نصاً موازياً لنصك بلغة أخري. ما هي الشريحة التي تخاطبها عبر الديوان؟ قبل أن أنتوي النشر ودخولي في معترك الكتاب وأعمالهم، حسمت أمري في مثل هذه المسائل، لا أعرف أي شريحة أخاطب، بل سأترك أن تصنع الكتابة قارئها وتنتقيه، حتي وإن لم يشبع مردود ذلك من حيث الانتشار الجهد المبذول في الكتابة. " أنا كنت أخرس والوجع بيقول ".. حالة من الحزن العميق تسيطر علي أجواء القصائد، وبالرغم من حالة الغناء والدندنة التي يفرضها الإيقاع الموسيقي لمقاماتك إلا أن مسحة الحزن تكاد تغلف روح الديوان.. لماذا؟ قد يحتاج معجم المقامات أكثر من قراءة، كي لا تظلمه أعين القراء وتحبسه في قمقم (الغنائية)، ليس الحزن أو الشجن فحسب.. فستجد في الديوان عدة معضلات فلسفية و روحية وعقلية سيقت في إطار موسيقي، وهذا فرضته التجربة ليس أكثر. " والشعر واضحة ملامحه كالشمس في شهر مارس ".. في أي الشهور نحن الآن بالنسبة لقصيدة العامية؟ وكيف تري حال شعرائها الآن؟ لو كنت أجبتك منذ عام أو عامين، لوجدتني مولعاً بفرز وتصنيف الألوان والمستويات الشعرية عبر دراسة كاملة قد لا تتسع لها صفحات الحوار، إنما أقول لك مثلما قلت "الشعر واضحة ملامحه" حتي وإن جاء فيما نعانيه من ضباب كثيف يسود المشهد الشعري حاليًا. وهل ينوب الفيس بوك عن الندوات والأمسيات الشعرية مستقبلاً؟ فيسبوك، أو غيره من مواقع التواصل بالنسبة للكتّاب، ما هو إلا آلية عرض، ولا نهمل دوره الكبير لمجرد سوء استخدام البعض له، التي لا يرونها كذلك، فتعودت أن أقول "دعه يكتب.. دعه يمر"، عسي أن تخلق هذه الحالة المقلقة من الزخم "تيارًا نقديّا مقاومّا"، هذا هو الأهم، فنحن جيل بلا نقاد. لا زالت قصائدنا الآخذة في التطور تقاس بمازورة نظريات البنيويين والتفكيكيين. كان طه حسين يقول إن الكاتب يبدأ شاعراً ثم يتحول إلي النثر، وقد ذكرت من قبل علي حسابك بالفيس بوك أنك تود لو تنشر قصائدك جميعها في كتاب واحد كي تتفرغ لكتابة أشياء هامة أخري.. هل نعتبر ذلك تحولاً من ثوب الشعر إلي عباءة النثر؟ لست في خصام مع النثر، بل أشجعه، بل أري أنه لم يصبح هذا اللون الأدبي الذي يحتاج للاعتراف به ودعمه، فهم مبدعون وكثر ويكتبون بتنوع عجيب ولهم نقادهم ومؤتمراتهم، وعالمهم الخاص، أما عن كتابتي إياه، ربما, أما لو قصدت السرد والرواية، فأنا لم أدخل هذا العالم حتي الآن وذلك أصابني بحاجز نفسي بيني وبينه، وأتمني أن يزول هذا الحاجز كي أسبر غور هذه المناجم، ربما تغيرت حياتي وتصوري عن الشعر والأدب. ألا تري أن قصيدة النثر هي الأكثر ملاءمة لجيلنا هذا؟ كتبت سابقًا أن »قصيدة النثر» مناسبة جدًا لجيلٍ ثارَ وانتكَس"، وأري أن هذه المرحلة لا تحتاج ل "زينة الشعر" قدر احتياجها ل "تقشف النثر" كي نصبح أكثر انتباها للحقيقة الواضحة. ما الخطوة التالية بعد (معجم المقامات) ؟ شرعت في كتابة تجربة أحاول فيها التخلي والتخفف مما شاب المعجم من مسحة غنائية تجريبية، ربما أعتبر ما كتبت حتي الآن "عتبات قصائد" قد تدشن لكتابة جديدة لم أطأ أرضها بعد، ولم أحدد لها وقتًا حتي الآن.