قيل عن إمام النحاة سِيبويه لقد روى الفيروز آبادي (ت 817ه) في كتابه "البلغة" عن محمد بن جعفر التميمي القزاز القيرواني (ت412ه) قال: كان سيبويه أولاً يصحبُ الفُقَهَاءَ وَأَهْلَ اَلْحَدِيْثِ، وكانَ يَسْتَمْلِي عَلَى حَمَّادٍ بن سلمة، ولكنَّه قَرَأَ:« مَا مِنْ أَصْحَابِي إِلا مَنْ شِئْتُ لَأَخَذْتُ عليه لَيْسَ أبا الدَّردَاءِ»(1) ، فقرَأَهَا: ليس أبُو الدَّردَاءِ، فلحَّنه أصحابُهُ، فَعَدَلَ عن قراءَةِ اَلْحَدِيثِ وَذَهَبَ حتَّى تَمرَّسَ بِاللُّغَةِ – لازم الخليل (ت 175 ه)- وألَّفَ الكِتَابَ، ثُمَّ بعد ذلك روى الحديثَ(2). وَلَقَدْ أَدْرَكَ سيبويه وغيرُه مِنْ أفذاذِ العَربيَّةِ وعُلمائِهَا أنَّ الاشْتغَالَ بِعُلُومِ الشَّريعةِ؛ من فقهٍ وتفسيرٍ وحديثٍ… وغيرها، يحتاجُ لإتقانِ قَواعِدِ النَّحوِ، وقال ياقوتُ عن سيبويه:"كان عارفاً بالنَّحوِ واَلْمَعَانِي والقِرَاءَةِ والغريبِ والإعْرَابِ، والأحكامِ وعُلومِ الحديثِ والرِّوايةِ ، واعتنى بالنَّحوِ والغَريبِ حتَّى لُقِّبَ بسيبويه بذلك"(3)، وقال ابن عائشة التَّميمي (ت228ه):"كنا نجلس مع سيبويه النحوي في المسجد ، وكان شاباً جميلاً قد تعلَّقَ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ بسببٍ، وضَرَبَ كُلَّ أَدَبٍ بسهمٍ ،مَع حَدَاثَةِ سِنِّهِ وبراعَتِهِ فِي النَّحوِ"(4). ولقد تعلَّم سيبويه كثيراً من مسائلِ الفِقْهِ ، والحديثِ ، والتَّفسيرِ ، وغيرها؛ لأنَّ العُلومَ وَقئذٍ مُتشابكة ولم يظهرُ ما يُسمَّى بالتَّخصُّصِ الدَّقيقِ، فكثيرٌ مِنْ النُّحَاةِ قُرَّاءٌ، وفقهاءٌ، ومُفسرون، وقُضاةٌ، وغير ذلك، وسُرعان ما تفوَّق سيبويه على أقرانه، كما أنَّه بزَّ كثيرًا من أساتذته، فقد يبزُّ التلميذ أستاذه أحياناً، وألَّف كتابه الذي سمَّاه بعض العلماء "قرآن النحو"(5) استعظاماً له. ومن طريف ما يُروى في هذا الشأن أنَّ عبد الله بن محمد عيسى أحد نحاة الأندلس "كان يختم كتاب سيبويه في كل خمسة عشر يوماً " كأنَّما يتلوه تلاوة القرآن(6). ومن ذلك أيضاً قولهم" مَنْ أراد أن يؤلف في النحو بعد سيبويه فليستحِ"(7) ، وقول السيرافي (ت368ه): وعمل كتابه الذي لم يسبقه إليه أحدٌ قبله، ولم يلحقْ به من بعده. وكان اَلْمُبرِّدُ (ت 285ه) يقولُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يقرأَ عليه كتابَ سيبويه: هَلْ ركبتَ البَحْرَ……الخ(8). وَمِمَّا لا شَكَّ فيه ولا جِدالَ حوله أنَّ سيبويه حقَّقَ مكانةً سَامِقَةً وشُهرةً طاغية وتوفيقاً مؤزَّرا فيما ذكره من آراء في كتابه، نال بفضله لقبَ إمام النُّحاةِ .. الحواشي: (1) ينظر: مغني اللبيب، لابن هشام (1/3877)، وفيض القدير شرح الجامع الصغير ، لعبد الرؤوف المناوي ، المكتبة التجارية الكبرى ، مصر ، الطبعة الأولى ، 1356ه (6/462) ، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ، للملا علي القاري ، تحقيق : جمال العيتاني ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1422ه /2001م، (3/79)، والبلغة في تراجم أئمة النحو واللغة ، للفيروز أبادي ، تحقيق : محمد المصري، جمعية إحياء التراث الإسلامي، الكويت 1407ه، الطبعة الأولى (1/49). (2) البلغة (1/499). وينظر: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة عيسى الحلبي، القاهرة،1384ه/1965م (1/412)، ومغني اللبيب ، لابن هشام (1/387)، وأخبار النحويين البصريين، للسيرافي، تحقيق: محمد إبراهيم البنا، دار الاعتصام، القاهرة ، 1986م (1/6) ، ومعجم الأدباء ، للحموي (1/444)، ونزهة الألباء في طبقات الأدباء، لأبي البركات الأنباري، تحقيق: إبراهيم السامرائي، الطبعة الثانية، مكتبة الأندلس، بغداد، 1970م (1/17 ،24)، ونفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للتلمساني، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1900م/1997م (4/85)، وفيض القدير، للمناوي (6/462)، ومقدمة كتاب سيبويه (1/8). (3) معجم الأدباء (19/61)، وبغية الوعاة (1/108) . (4) ينظر: معجم الأدباء (19/61)، وبغية الوعاة (1/108)، ومقدمة كتاب سيبويه (1/144)، وغيرها. (55) ينظر: مراتب النحويين، لأبي الطيب اللغوي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، نهضة مصر، القاهرة، 1974م (ص65)، والإحاطة في أخبار غرناطة، لابن الخطيب، تحقيق: د. يوسف علي طويل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى ، 2003 م/1424 ه (3/36)، والمزهر في علوم اللغة وأنواعها، لجلال الدين للسيوطي، تحقيق: فؤاد علي منصور، دار الكتب العلمية ، بيروت، الطبعة الأولى، 1998م (2/347)، وغرائب الاغتراب ونزهة الألباب في الذهاب والإقامة والإياب ، للألوسي، مطبعة الشابندر، بغداد ، 1327ه (1/138)، وغيرها . (6) ينظر: بغية الوعاة ، للسيوطي (1/289) ، ومقدمة كتاب سيبويه (1/24). (7) ينظر: نزهة الألباء (1/75)، والفهرست ، لابن النديم ، دار المعرفة ، بيروت ، 13988 ه – 1978م (ص76). (8) ينظر: أخبار النحويين البصريين ، للسيرافي ( ص48) ، ومقدمة كتاب سيبويه (1/222) وما بعدها .