لقد دَأَبَ كثيرٌ من الباحثين علي نِسْبَةِ وَضْعِ عِلْمِ الصَّرْفِ إِلَي العالم الكُوفِيِّ أبي مُسْلِمِ مُعَاذِ بْنِ الهَرَّاءِ (ت 187ه) , ولكِنَّ هذه النسبةَ مَوْطِنُ خِلافٍ بين العُلماءِ , ويُلْحَظُ أَنَّ السُّيُوْطِي (ت 911ه) هو أولُ مَنْ أَشَارَ إلي وَضْعِ الهرَّاءِ لِعِلْمِ الصَّرْفِ ؛ حيثُ يقولُ :" لَمَحْتُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ التَّصْرِيْفَ مُعَاذٌ هَذَا "(1)، وتَابَعَهُ كَثِيْرٌ مِنْ العُلَمَاءِ حَتَّى يَوْمِنَا هَذَا(2). ولكنَّ هذا الأمرَ فيه نَظَرٌ, فقد دفعهم لذلك حُبُّ الهرَّاءِ وَوَلَعِهِ بالتَّمَارِيْنِ المُخْتَرَعَةِ والأَبْنِيَةِ (3), وهذا يعني أنَّ التَّمَارِيْنَ والأبنيةَ وقضايا صرفيَّةٍ أُخْرَي كانت موجودةً قَبْلَهُ , فَجَاءَ الهَرَّاءُ لِيُكْثِرَ مِنْهَا , ويَتَفَنَّنَ فِي دِرَاسَتِهَا . فَهَلْ بِهَذَا يَكونُ الهَرَّاءُ وَاضِعَ عِلْمِ الصَّرْفِ ؟! وإذا صَحَّتْ روايةُ السُّيوطي السَّابِقَةُ , فهذا "يُخَالِفُ طبيعةَ الأشْيَاءِ ؛ إِذْ مِنْ غيرِ المَعْقُوْلِ أَنْ يبدأَ النَّحْوُ في البَصْرَةِ تِلْكَ البِدَايَة التي عرفناها , ثم توضعَ بعض الأصول ؛ مثل القياس والتعليل علي يد عبد الله بن أبي إسحاق (ت 117ه) ، ثم يُؤلف الخليل ين أحمد (ت 170ه) معجم (العين) , كل هذا دون أنْ تتناولَ البصرةُ المَبَاحِثَ الصَّرْفيَّةِ في انتظار الهراء في الكوفة حتى يضع أصول التصريف !(4) ، ويُؤَكِّدُ الدكتور عبد الحميد عنتر نَفْيَ نِسْبَةِ وَضْعِ الهَرَّاءِ لِعِلْمِ الصَّرْفِ , ويسوق لذلك أدلةً من أَهَمِّهَا: (5) الأولُ : أَنَّ كُتُبَ التَّرَاجِمِ التي صُنِّفَتْ قبل عَصْرِ السُّيوطي (ت 911ه) لم تذكر أنَّ وَاضِعَ علم الصَّرْفِ مُعَاذُ , بل لم تُشِرْ إلي ذلك . الثَّاني : أنَّ العلماءَ علي كثرتهم بين بصريين وكوفيين ومُتأخرين عن هؤلاء وهؤلاء لم ينقلوا إلينا أيَّ قاعدةٍ صَرْفِيَّةٍ من القواعِدِ التي يُظَنُّ أَنَّ مُعَاذًا وَضَعَهَا ؛ مع أنَّه مِنْ مُتَقَدِّمِي الكوفيين وأستاذ الكسائي (ت 198ه). الثَّالِثُ : ما نعرفه من تاريخ مُعُاذٍ أَنَّه كان يَتَعَمَّقُ في صَوْغِ الأبنيَةِ المُخْتَرَعَةِ للتَّمَارِيْنِ, ويُكْثِرُ مِنْ ذلك في مُحَاوَرَاتِهِ وَمَجَالِسِهِ, حَتَّى ضَجَرَ منه الأدباءُ ومَلَّ حَيَاتَهُ الشُّعَرَاءُ ، فقالوا فيه ما قالوا, فظهر لك من هذا أنَّ مُعَاذًا لم يَكُنْ هُو الوَاضِعُ لِعِلْمِ الصَّرْفِ(6). ولكِنَّهُ كَلفَ بالتَّمَارِيْنِ والأبنيةِ (7), واشْتَهَرَ بِدِرَاسَةِ الصَّرْفِ وَمَسَائِلِهِ وَألَّفَ في ذلك كُتُبًا, ولكنَّ أيًّا من هذه الكُتُبِ لَمْ يَصِلْ إلينا؛ وضَاعَتْ كمَا ضَاعَ أكثرُ تُرَاثِ أجدادِنَا وعلمائِنَا ومُؤَلَّفَاتِهِمْ . والجديرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ مَسَائِلَ عِلْمِ الصَّرْفِ والتَّأْلِيْفِ فيها , كان مشهورًا قبل مُعَاذٍ, ومن ذلك ما وَرَدَ : أنَّ ابن أبي إسحاق (ت 117ه) قد تَحَدَّثَ عن الهمزة, وَوَضَعَ كتابًا في (الهمزة) ؛ حيثُ يقولُ السيوطي عنه :"وتَكَلَّمَ في الهَمْزَةِ حَتَّى عَمِلَ فيه كتابًا أَمْلاهُ "(8) , وللرُّؤَاسِي (ت 187ه) كتاب (التَّصْغِيْرِ) , وكان لعيسي بن عمر (ت149ه) آراء صرفية, ومؤلفات في الصَّرْفِ والنَّحْوِ وغير ذلك, حتَّى قِيْلَ عنه:"إِنَّ له نَيِّفًا وسبعين مُصَنَّفًا ذهبت كُلُّهَا"(9) بَلْ مِنْ كَثْرَةِ عَمَلِهِ بالتَّأْلِيْفِ كان يقولُ:"كُنْتُ أنْسَخُ بالليل حَتَّى يَنْقَطِعَ سَوَائِي؛ يعني: وَسْطَه"(10) ، كما كان لأبي عمرو بن العلاء (ت 154ه) دفَاتِرُ ومُؤَلَّفَاتٌ مٍلْءُ بيتِهِ إلي السَّقْفِ, ثُمَّ تَنَسَّكَ فَأَحْرَقَهَا(11), ومِمَّا لا شَكَّ فِيْهِ أَنَّ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الكُتُبِ مَسَائِلَ صَرْفِيَّةً. وبالنَّظَرِ إلي عبارةِ السُّيوطي "لَمَحْتُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ التَّصْرِيْفَ مُعَاذٌ هَذَا " (12) نَجِدُ أَنَّهَا لا تُؤَكِّدُ وَضْعَ الهَرَّاءِ لِلْصَّرْفِ ؛ وذلك لقوله (لمحت) , كما أنَّ مُصطلح (التَّصْرِيْفِ) لم يظهَرْ لَدَى العلماءِ إلا في عصر الأحمر(ت194ه) واليزيدي (ت 202 ه) وما بعدهما, وهذا ما يراه الدكتور عبد العال سالم مِمَّا رَوَاهُ الزَّجْاجِي (ت337ه) ؛ حيثُ يقولُ " قال أبو محمد اليزيدي: وكنت جالسًا مع الفضل بن ربيع (ت 206 ه), فدخل علينا علي الأحمر, فجلس إلي الفضل, فقال لي الفضل: مَنْ كان أعلمَ بالنَّحْوِ الكسائي (ت 198ه) أو أبو عمرو بن العلاء (ت 154ه)؟ وكان أبو عمرو أستاذ أبي محمد, قال: قلت: أَصْلَحَكَ الله , لم يكنْ أَحَدٌ بالنَّحْوِ أَعْلَمَ مِنْ أبي عمرو, فقال الأحمر: لم يكن يعرف التصريف, فقلت له: ليس التَّصْرِيْفُ مِنْ النَّحْوِ فِي شَيْءٍ, إنَّمَا هو شَيْءٌ وَلَّدْنَاه نَحْنُ وأَصْلَحْنَا عليه, وكان أبو عمرو أنبلَ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ فِيْمَا وَلَّدَ النَّاسُ : قال: ولِمَ ؟ قلتُ : لأنَّه جَاوَرَ البَدْوَ أربعين سنةً، ولم يَقُمْ الكسائي بِالبَدْوِ أربعين يومًا ، ثُمَّ قُلْتُ له: أنت أيضًا تَزْعُمُ أنَّ الكسائي لَمْ يَكُنْ يُبْصِرُ التَّصْرِيْفَ وأنتَ تَزْعُمُ أَنَّك عَلِمْتَهُ "(13). وبعد .. فقد تَأَكَّدَ أَنَّ الهَرَّاءَ لم يَضَعْ عَلْمَ الصَّرْفِ ، بل كان مُوْلَعًا بالتَّمَارِيْنِ الصَّرْفِيَّةِ والأبنيةِ ، وشَارَكَهُ فِي ذلك العديدُ مِنْ عُلَمَاءِ الكُوْفَةِ الذين " ألَّفوا في بعضِ أبْوَابِ الصَّرْفِ كُتُبَا خَاصَّةً اعْتِنَاءً بِشَأْنِهَا ، لكن لم تَصِلْ تآليفهم إلي حَدٍّ يجعلُ الصَّرْفَ مُنْفَرِدًا عَنْ النَّحْوِ بالتَّأْلِيْفِ(14)" , وهذا لم يقلل من شأن الهراء أو الكوفيين , فقد استنبطوا رحمهم الله كثيرًا من القواعد التي سبقوا بها البصريين إبَّان انشغال البصريين بتبويبِ علم النحو وإرساء قواعده , ويبقي السؤال: مَنْ وَاضِعُ عِلْمِ الصَّرْفِ ؟ – الحواشي: (1) بغية الوعاة (ص393) , والمزهر (2/202) , والحلقة المفقودة (ص234) . (2) أمثال : الصبان , وصاحب التصريح , والخضري , وصاحب شذا العرف وغيرهم . (3) طبقات النحويين، للزبيدي (ص87) . (4) من تاريخ النحو العربي ؛ لحلمي خليل , ط دار المعارف, الإسكندرية 1995م (ص8). (5) تصريف الأفعال, ط الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة , 1410 ه ، (ص14) . (6) تصريف الأفعال (ص15) . (7) نشأة النحو(ص32) . (8) المزهر (2/398) , والحلقة المفقودة (ص121) . (9) بغية الوعاة (2 /238) . (10) المزهر : (2/304) , والخصائص (3/73) . (11) معجم الأدباء (11/160) . (12) المزهر : (2/398) . (13) جالس العلماء لثعلب (ص171) , والحلقة المفقودة (ص121) . (14) بغية الوعاة (1/393) , والمزهر (2/202) .