(محاضرة أُلقيت في كنيسة الصّليب المحيي- لبنان في تاريخ 9/12/2016) من أصعب الإشكاليّات الّتي يواجهها الإنسان هي تلك المختصّة بمعرفته لذاته. وقد يحيا عمراً كاملاً ولا يتعرّف على هذه الذّات ولا يتصادق معها. فيمرّ مرور الكرام في حياة وُهبت له ليحقّق فيها إنسانيّته وصورة الرّبّ فيه. إلّا أنّ الرّبّ في الكتاب المقدّس أعطى الإنسان لا سيّما المرأة مفاتيح تمكّنها من معرفة ذاتها واكتشاف قدراتها وطاقاتها وقيمتها الإنسانيّة الوجوديّة، ولعلّ ذلك، أي معرفة الذّات، أوّل تحدٍ ينبغي على المرأة مواجهته كيما تحقّق ذاتها وتحقّق صورة المسيح الحيّ في العائلة والمجتمع والوطن، والعالم. من الكتاب المقدّس ننطلق، لنتبيّن ثلاث مفاتيح تعرّف المرأة على حضورها وكرامتها ومكانتها، فتثق بالمواهب الممنوحة لها من الرّبّ، وتسعى إلى التّجارة بوزناتها كيما تشرق في محيطها، وتعلن كلمة الحبّ الإلهي. – المفتاح الأوّل: المرأة/ الملء عندما خلق الله آدم، وبعد أن سلّطه على كلّ الأرض وأخضعها له، قال الربّ: "لا يحسن أن يكون آدم وحده، فأصنع له مثيلاً يعينه." (تك 18:2). في عمق هذه الآية تحضر قيمة المرأة بشدّة، وأهميّة وفعاليّة حضورها. فالمعنى الكتابيّ يأخذ بعداً أعمق من ذاك الّذي يدلّ على المرأة الصّديقة والمعينة والمرافقة… إنّها الّتي لا يحسن أن يكون آدم بدونها. ولا ينحصر المعنى في آدم/ الرّجل وحسب، بل يتخطّاه إلى آدم/ الإنسان. هي ذلك الكائن الّذي يملأ الوحدة بل هي الاحتواء حتّى لا يبقى العالم وحيداً. – المفتاح الثّاني: المرأة/ صورة الله ومثاله هذه المرأة الّتي لا يحسن أن يكون آدم وحده بدونها، مصنوعة على صورة الله ومثاله: "خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلق البشر، ذكرا وأنثى خلقهم". (تك 27:1). وبالتّالي فهي مدعوّة لتحقيق هذه الصّورة فيها وتحقيق ذاتها في الله. ولعلّ أقرب صورة يمكن الاستعانة بها لفهم الله هي صورة المرأة الأم. ففيها يجتمع الحنوّ والرّحمة والتّسامح ووهب الذّات، بل الموت عن الذّات في سبيل أن يحيا الآخر. – المفتاح الثّالث: المرأة/ الكنيسة يقول القدّيس بولس في رسالته إلى أهل أفسس (24:5): "كما تخضع الكنيسة للمسيح، فلتخضع النساء لأزواجهنّ في كلّ شيء." إذن فالمرأة كالكنيسة. والكنيسة، أمّ ومعلّمة ومرشدة، وهي جسد الرّبّ. منه ولدت، وله تنقاد، وعليها يعتمد الرّبّ في تنشئة أبنائه وتهيئتهم للملكوت السّماويّ. الكنيسة هي حضور الرّبّ في العالم، وسرّ كلمته المحيية، وهي المعنيّة بثبات الخلق الجديد. انطلاقاً من هذه النّقاط الثّلاث، إذا عرفت المرأة وفهمت قيمة حضورها المستمدّة من الرّبّ، تعرّفت إلى ذاتها وعرفتها وتصادقت معها وأظهرت أبهى ما فيها. ففي كلّ امرأة جمال لو أدركته أصلحت الخلل الموجود في العالم، بدءاً من الحضور في العائلة مروراً بالمجتمع والوطن، وصولاً إلى العالم كلّه. إلّا أنّ هذا الجمال وهذه المعرفة يفترضان ثقافة عند المرأة على جميع المستويات، خاصّة على المستوى الإيمانيّ. فالثّقافة ليست امتلاك معلومات عامّة بقدر ما هي تعزيز الاتّزان العقليّ، والنّفسيّ والرّوحيّ. وبقدر ما تفرغ المرأة ذاتها، تسعى لتثقيفها حتّى تستحقّ صورة الله البهيّة، وتحقّقها في ذاتها. المرأة الّتي على صورة الله ومثاله، والّتي لا يحسن أن يكون العالم بدونها، هي كالكنيسة الّتي لا يمكن أن تتخلّى عن اتّزانها وثقافتها وإلّا ما أهمّيّة حضورها في عالم ينازع من شدّة الجهل والفقر الرّوحيّ؟ وكيف لها أن تواجه تحدّيات جمّة على المستوى التّربويّ، والاجتماعيّ والعلائقيّ، ما لم تتثقّف؟ وكيف لها أن ترتقي بإنسانيّتها بعيداً عن التّفاهة المحيطة بنا في عالم يعيش هيكليّة التّفاهة، على المستوى الإعلاميّ، والسّياسيّ، والاجتماعيّ، حتّى على المستوى الإيمانيّ نلاحظ تعاطياً إيمانيّاً بعيداً عن العمق الإيمانيّ المسيحيّ. فالإيمان لا يقتصر على الصّلاة وممارسة الطّقوس، وإنّما هو هذا الامتداد العلائقيّ مع الرّبّ. في الإنجيل المقدّس (38:10) مشهد يحدّثنا عن المرأة الباحثة عن ذاتها، والسّاعية لتثقيفها. (مرتا وأختها مريم). في حين أنّ مرتا تهتمّ بالأمور المنزليّة الخدماتيّة الكثيرة الّتي لا تنتهي، تجلس مريم عند أقدام الرّبّ تستمع لكلامه، أيّ إنّها كانت تتثقّف. تصغي مريم بصمت إلى كلمة الحبّ الإلهيّ كي تمتلئ منها فتعرف ذاتها. "عرفتك يا الله فعرفت نفسي" (المغبوط أغسطينس) في كلّ واحدة منّا تسكن مرتا ومريم. إلّا أنّه ينبغي في مكان ما أن نفرض مريم على مرتا على الرّغم من كلّ الانشغالات والمسؤوليّات والالتزامات المطلوبة منّا، لأنّ المطلوب واحد. "مرتا، مرتا أنت تضطربين وتهتمّين بأمور كثيرة لكنّ المطلوب واحد" (لوقا 41:10). المطلوب الواحد ليس المعرفة الإيمانيّة وحسب، وإنّما هو المطلوب الواحد الّذي يتفرّع منه كلّ مطلوب. المطلوب الواحد هو الصّمت الدّاخلي والولوج في أعماق الذّات والامتلاء من النّور والحبّ الإلهيّين، حتّى تعاين كلّ واحدة منّا جمالها الحقيقيّ. النّور والحبّ يوقظان في داخلنا الوعي المعرفيّ الّذي يدلّنا على مواهبنا وقدراتنا وطاقتنا الإبداعيّة في شتّى المجالات. كما أنّهما يرتقيان بإنسانيّتنا حتّى لا تبقى ملتصقة بالأرض. يقول لنا القدّيس بولس في رسالته إلى فيليبي (5:2): "كونوا على فكر المسيح يسوع"، ما يعني أنّ المستوى الفكري الّذي يلزمنا أن نبدأ منه هو فكر المسيح، ولا يمكننا أن نرضى بأقل من ذلك. إنّه الفكر الإنسانيّ الإلهي الّذي يجعل من فكرنا وحبّنا وسلوكنا كياناً إلهيّاً. وبالتّالي فالسّلوك بهذا الفكر يتطلّب ثقافة على كلّ المستويات حتّى تتمكّن المرأة من مواجهة باقي التّحديات بحكمة واتّزان ومرونة. مريم وعلى الرّغم من الانشغالات الّتي لا تنتهي، خلقت وقتاً لتلج ذاتها على ضوء كلمة الحبّ الإلهيّ، وتتعرّف عليها لتتبيّن قيمتها وكرامتها. بينما نلاحظ أنّ مرتا المهتمّة بأمور كثيرة ولا شكّ أنّها مهمّة ومطلوبة منّا، تهتمّ لكلّ ما هو خارج الذّات. يستخدم الرّبّ كلمة (تضطربين). ذاك لا يعني إهمال واجباتنا، وإنّما ذاك يعني أنّ عدم التّعرّف على الذّات مقلق، يفرغ النّفس أكثر ممّا يملأها، لأنّه فعل خارجيّ لا داخليّ. هذا المطلوب الواحد، يملأ الإناء الّذي سينضح بما فيه، ويعزلنا عن السّخافات والتّفاهات الّتي لا تجدي نفعاً، لأنّ الأمور الكثيرة بعيداً عن الواجبات، هي تلك التّفاهات الّتي تقتحم حياتنا عنوةً، لتدمّر فكرنا وتشوّه روحنا، وتقلق أنفسنا. فعلى المستوى الإعلاميّ، نشهد تكثيفاً للتّفاهات والسّخافات الّتي تعمل على تدمير منهجيّ للقيم والأخلاق والثّقافة من خلال البرامج والمسلسلات الّتي تدّعي معالجة الواقع في حين أنّها تهشّم كلّ جمال فينا. وعلى المستوى السّياسيّ، التّحليلات السّياسيّة الّتي لا تنتهي الّتي نجترّها دون وعيّ ونقد يمكّننا من تبيان الصّواب من الخطأ. والّذي يوهمنا بما هو منافٍ للحقيقة في حين أنّه لا يمتّ إلى الإنسانيّة بشيء ولا يقتصر إلّا على تحقيق مآرب سياسيّة. وكذلك على المستوى التّربويّ، نشعر وكأنّ المرأة في تراخ جعلها تستقيل من دورها كأمّ فاعلة. فالأمّ لا يقتصر عملها على الأمور الخدماتيّة المنزليّة، بل الأمومة هي الكلمة المرادفة للكنيسة، أيّ الإحاطة بكلّ مستلزمات التّربية الفكريّة والمعنويّة. هل يمكن أن نتخيّل الكنيسة تهتمّ بأمور تافهة كعمليّات التّجميل الّتي أصبحت هاجساً في مجتمعاتنا تنأى عن الجمال الحقيقي المزروع فينا؟ أو أن تهتمّ لتوقّعات المنجّمين والمدّعين بأنّهم يمتلكون إحساساً عالياً بالمعرفة الغيبيّة وتهمل الإحساس الإبداعيّ يقراءة الأحداث ورؤية وجه الله فيها؟ أو هل يمكننا أن نتوقّع من الكنيسة تراخياً في تنشئتنا ورعايتنا والاهتمام بنا حتّى النّهاية. فالمرأة كالكنيسة وعملها ليس بوظيفة تؤدّيها في وقت محدّد ومكان محدّد. بل هو فعل حبّ إلهيّ ينطلق من الأرض ليبلغ السّماء. وأمّا على المستوى الإيمانيّ، فيبدو جليّاً تعاطينا التّافه غالباً مع الإيمان، من ناحية المزج بين الثّقافات بحجّة الانفتاح على الآخر، وأكذوبة العيش المشترك. الانفتاح على الآخر لا يعني قطعاً الذّوبان فيه، وتبنّي مبادئه، بل يعني قبول الآخر كما هو واحترام مبادئه وأفكاره دون السّماح له بمساس الثّقافة الشّخصيّة لا من قريب ولا من بعيد. والعيش المشترك يعني الاعتراف بهذا الآخر، أيّاً كان مع الالتزام باحترام كينونته، دون أن يفرض علينا ما له ليحلّ السّلام بيننا. هذا المزج تحت غطاء التّسامح، ينتزع من الفكر المسيحي أصوله الإنسانيّة الإلهيّة، بمعنى أنّه يفقدنا في مكان ما قدرتنا على الارتقاء بإنسانيّتنا نحو الفكر الإلهيّ. فنقبل بأمور غير مرتبطة بثقافة الحبّ ولا تمتّ بصلة إلى ما نسعى إليه ألا وهو الاهتمام بما فوق. لأنّه "إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق، حيث المسيح جالس عن يمين الله." (كولوسي 3:1). المطلوب الواحد هو الاهتمام بما فوق، ولا يمكن بعد الآن الانحدار إلى ما هو أسفل. ذاك لا يعني التّخلّي عن اختباراتنا البشريّة والإنسانيّة، بل يعني الارتقاء الفكريّ، والنّفسيّ، والرّوحيّ، أي تثقيف الذّات حتّى تفرض المرأة حضورها في العائلة والمجتمع والوطن. لذلك فالمطلوب من كلّ واحدة منّا، ولوج الدّاخل، والعودة إلى العمق وتبيّن قدراتها الحقيقيّة الممنوحة لها من الرّبّ، فتعلم كرامتها الإنسانيّة الإلهيّة، حتّى تشرق وتكون نور المسيح في عائلتها أوّلا ثمّ في محيطها ثمّ في العالم. "نحن سفيرات المسيح، وكأنّ الله يعظ بلساننا" (2كورنثس 20:5). فحريّ بنا أن نتثقّف حتى نسمح للرّبّ أن يعظ بلساننا، وحريّ بنا أن نرتقي ونسمو حتّى يظهر الحبّ الإلهيّ في فكرنا وقلبنا وسلوكنا. إذا حضرت امرأة كالكنيسة، لا يحسن أن يكون العالم بدونها، في كلّ بيت، فكيف تكون العائلة، وكيف ينهض المجتمع ويرتقي، وكيف يُبنى الوطن، بل العالم؟