«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأسئلة الشائكة حول السيدة مريم
نشر في البوابة يوم 11 - 08 - 2016

«سر مريم».. ليس من السهل الدخول فى أعماق سيدة نساء العالمين ولكن العقل لا يهدأ أبدا عندما يجادل حول العذراء، ولماذا هى بالذات التى اختيرت لهذه المهمة المقدسة؟ وما موقع علاقتها بالله وكيف حملت بكلمته بدون زرع بشرى؟ وهل يمكن تبسيط ذلك والوصول لجوهر الفهم المخفى؟.. يؤكد لنا الدكتور العلامة جرجس كامل يوسف أن هذه الأسئلة طرحها آباء الكنيسة منذ القرون الأولى للميلاد وفى هذا الحوار نحاول أن نقترب من هذه المنطقة الملغمة جدا.
■ لماذا العذراء مريم بالذات اختيرت أمًا للمسيح كلمة الله؟
- إنّ الله إلهنا حقيقة رائعة، وأعماله عظمة وجلال، هذا ما تجلّى فيما صنعه الله فى مريم من عظائم، ففيها يسمو الله المنطق البشريّ ومقاييسه ويتخطّى قوانين الطبيعة البشريّة وحدودها، فإنّ من وضع النواميس لتكوين الطبيعة البشريّة وتطويرها قد وضع لذاته نواميس جديدة أروع من الأولى، ومن العبث محاولة طرح الأسئلة حول هذه النواميس الجديدة فى حين لا تزال النواميس الأولى جيّدة وصالحة، إنّ محاولة كهذه لا ينتج منها سوى التخبّط فى لجج الضباب، وهى إلى ذلك امتهان لقدرة الله الذى خلق من العدم هذا الكون الفائق الجمال، وعلى كلّ من الأسئلة التالية: لماذا؟ من أين؟ كيف؟ ليس سوى جواب واحد: هذا هو عمل الله الذى تجلّى لنا فى شخص يسوع المسيح الذى نؤمن أنّه كلمة الله وابن الله المتجسّد.
إننا إذ نجول فى فكر آباء الكنيسة شرقا وغربا نرى مدى الفهم اللاهوتى السليم المبنى على روح الكتاب المقدس والحياة الكنسية الأولى، والذى يكرم العذراء مريم من أجل انتسابها لله وولادتها لله الكلمة المتجسد من أجل خلاصنا ومن أجل إيمانها وفضائلها، نحن إذ ننظر إلى سيرتها ونطوبها ونطلب صلواتها نتذكر كيف أن السيد المسيح صنع أولى معجزاته فى عُرس «قانا الجليل» بطلبات القديسة مريم، كما أن العذراء القديسة مريم توصينا أن نعمل بما يوصينا به الرب يسوع المسيح «قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه» (يو 2 : 5).
ويفسر لنا القديس «أغريغوريوس» الصانع للعجائب لماذا اختارت النعمة الإلهية العذراء مريم دون سواها من النساء، إنها اتحدت بالله بالصلاة والتأمل وبرهنت على حكمتها ورزانتها (أم الله اتحدت عقليا بالله بدوام الصلاة والتأمل وفتحت طريقا نحو السماء جديدا. سمت به فوق المبادئ والظنون الذى هو الصمت العقلى وصار لها الصمت القلبى وكما يقول الكتاب المقدس {أما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به فى قلبها}، اختارت النعمة مريم العذراء دون سواها من بين كل الأجيال لأنها بالحقيقة قد برهنت على رزانتها فى كل الأمور ولم توجد مثلها امرأة أو عذراء فى كل الأجيال، جاءت الكلمة الإلهية من الأعالى، وفى أحشائها المقدسة أعيد تكوين آدم».
يوضح القدّيس «إيريناوس» دور مريم العذراء فى التجسد أو هذا الخلق الجديد:
«كما أنّ يد الله خلقت آدم من أرض عذراء، كذلك لمّا جمع كلمة الله الإنسان فى شخصه، ولد من مريم العذراء. وهكذا إلى جانب حوّاء، ولكن على خلافها، قامت مريم بدور فى عمل الجمع هذا الذى هو عمل خلاص الإنسان، لمّا حبلت بالمسيح. حوّاء أغواها الشرّ وعصت الله. أمّا مريم فاستسلمت لطاعة الله وصارت المحامية عن حوّاء العذراء. إنّ حوّاء، وهى بعد عذراء، كانت سبب الموت لها وللجنس البشريّ بأسره. أمّا مريم العذراء فبطاعتها صارت لها وللجنس البشريّ بأسره سبب خلاص. من مريم إلى حوّاء هناك إعادة للمسيرة عينها، إذ ما من سبيل لحلّ ما تمّ عقده إلّا بالرجوع باتّجاه معاكس لفكّ الحبال التى تمّ حبكها. لذلك يبدأ لوقا نسب المسيح ابتداءً من الربّ ويعود إلى آدم (لو 3/ 22-38)، مظهرًا أنّ الحركة الحقيقيّة للولادة الجديدة لا تسير من الأجداد إليه بل منه إلى الأجداد، وفق الولادة الجديدة فى إنجيل الحياة.
هكذا أبطلت طاعة مريم معصية حوّاء. ما عقدته حوّاء بعدم إيمانها حلّته مريم بإيمانها. لمحو الضلال الذى لحق بالتى كانت مخطوبة العذراء حوّاء حمل الملاك البشارة الجديدة الحقّة إلى التى كانت مخطوبة. العذراء حوّاء ضلّت بكلام الملاك واختبأت من وجه الله بعد أن عصت كلمته، أمّا مريم فبعد أن سمعت من الملاك البشرى الجديدة، حملت الله فى أحشائها لأنها أطاعت كلمته. إذا كانت الأولى عصت الله، فالثانية رضيت بأن تطيعه. وهكذا صارت العذراء مريم المحامية عن العذراء حوّاء. وكما ربط الموت الجنس البشريّ بسبب امرأة، كذلك خُلّصَ الجنس البشريّ بواسطة امرأة».
هكذا رأى آباءُ الكنيسة فى القرنين الأوّل والثانى أنّ لمريم دورًا أساسيًّا فى تاريخ الخلاص. وهذا الدور هو دور مزدوج: فقد حبلت بيسوع المسيح بشكل بتولى. إنّها أمّ المسيح ابن الله. ثمّ إنّها، بإيمانها وطاعتها لكلام الله، قد أبطلت معصية حوّاء الأمّ الأولى، وهكذا شاركت بملء حرّيتها فى الخلاص الذى جاءنا به ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح.
إنّ طبيعة المسيح البشريّة قد تكوّنت فى أحشاء مريم العذراء بقدرة الله الخلاّقة. فالله وحده أعطى مريم أن تكون أمًّا لابنه الله الكلمة المتأنسن، إذ خلق مباشرةً الحياة فى أحشائها، من هذه الحقيقة ينتج أنّ هناك علاقة فريدة وألفة لا توصف بين أبوّة الله الخلاّقة وبتوليّة العذراء فى الجسد. لذلك دعا التقليد الكنسيّ مريم العذراء «عروس الله». لا ريب أنّ هذه العبارة قد تبدو تجديفًا على اسم الله لمن لم يدخل بالإيمان فى سرّ عمل الله على الأرض. لذلك يجب استعمالها بحذر وتحفّظ، مع التنبّه إلى أنّ هذه العبارة يجب ألّا تؤخذ بمعناها الحرفى، بل جلّ قصدها التّأكيد أنّ مريم قد حبلت بالمسيح بشكل بتوليّ، وأنّ ابنها بالجسد هو نفسه ابن الله الكائن منذ الأزل مع الآب والرّوح. فالمسيح الرب والسيد بقى فى أحشاء مريم إلهًا تامًّا، أحد الثالوث الأقدس، وإن اتّخذ طبيعة بشريّة تامّة. فمن الجهة أو الطبيعة البشريّة أى الناسوت هو ابن العذراء وحدها، إذ استمدّ منها بقدرة الله كلّ ما جعله إنسانًا، ومن الجهة أو الطبيعة الإلهيّة أو الناسوت، هو ابن الآب الأزليّ. وهكذا تحقّق فى مريم العذراء هذا الالتئام العجيب: فالطفل الذى ولدته هو منها فى طبيعته البشريّة، ومن الآب وحده فى طبيعته الإلهيّة. فالله هو أبوه فى السّماء، ومريم هى أمّه على الأرض. لذا طاب للقديس «كيرلس» وكل آباء القرنين الخامس والسادس، أن يكرروا العبارة الرائعة، «الله اللوغوس الكلمة المتجسد هو هوموسيوس أى واحد فى الطبيعة والجوهر مع الله الأب من جهة اللاهوت، وهوموسيوس مع أمه والبشرية المفدية أى واحد فى الجوهر والطبيعة البشرية من جهة الناسوت».
الله حاضر إذاً فى مريم العذراء بقدرته الخلاّقة وبأبوّته الأزليّة. وابن الله حاضر فى مريم لأنّها صارت له أمًّا. والأمومة هى حضور، أى علاقة بين شخصين. إنّها ينبوع منه تتفجّر حياة تبقى مماثلة للينبوع الذى صدرت منه، ومتّصلة به اتّصالا وثيقًا. إنّ العلاقة التى تجمع بين الأمّ وابنها هى أعمق نوع من الحضور. وقد اكتسبت الأمومة فى مريم حضورًا أكثر عمقًا وأكثر شموليّة. فالعلاقة فيها هى بين الخالق وخليقته، بحيث إنّ السماء، من خلال أمومة مريم، ارتبطت بالأرض ارتباطًا دائمًا، والأرض صارت سماء. الله اتّحد هو نفسه بخليقته، والخليقة تألّهت. ابن الله، الله الحق من الله الحق، صار واحدًا من بنى البشر وأخًا لكلّ كائن بشريّ، وجعل كلّ أبناء البشر واحدًا معه (بلغة نيقية، هوموسيوس معه)، وإخوة وأخوات حقيقيين بعضهم لبعض. وليس أدلّ على ذلك ممّا قاله الشاعر الألمانى «غوتيه» موجزًا تعليم الديانة المسيحيّة فى مريم العذراء: «المرأة هى السبيل إلى السماء». لا سبيل آخر أمام الله كى يتّحد بالبشريّة، وأمام البشر كى يرتفعوا إلى الله.
■ ما موقعُ العذراء مريم فى فكر الآباء؟
- ركّز الآباء فى القرنين الأوّل والثانى على دور مريم العذراء فى قصد الله من خلال الكتاب المقدّس وفى مقارنة أقاموها بين حوّاء ومريم العذراء، «حواء الأولى وحواء الثانية، تماما مثل آدم الأول وآدم الثانى».
ومن بين العديد من الآباء الذين تحدثوا وكتبوا عن القديسة مريم، نختار بحسب المطران «كيرلس سليم» بعض النماذج القليلة، ومنها ما قاله القديس «إغناطيوس» الأنطاكى عام 107م فى رسائله السبع إلى الكنائس، ويؤكّد بتوليّتها وأمومتها الإلهيّة. فيقول فى رسالته إلى الأفسسيين: «واحد هو طبيبنا، مخلوق وغير مخلوق، جسد وروح، إله فى الإنسان، وحياة حقيقيّة فى الموت، مولود من مريم ومولود من الله» (رقم 7). ثمّ يتكلّم على أسرار ثلاثة لم يعرفها الشيطان، فيقول: «لم يدرك سلطان هذا العالم بتوليّة مريم ولا أمومتها ولا موت الربّ. هذه الأسرار التى تمّت فى صمت الله» (رقم 19).
■ ما أهم الأسئلة التى طرحها الآباء حول العذراء؟
- كان السؤال الملح، هل العذراء أم الله أم المسيح الإنسان، أم الله المتأنسن وقد حسم القديس كيرلس الكبير الأمر بمصطلح العذراء ثيوطوكوس، أى أم الله. وثمة سؤال آخر حول هل نحن نتعبد للعذارء أم نطوبها، وما مركز العذراء فى تدبير الخلاص، وهل هى أمة الرب عبدة المسيح فتاة الآب التى اختارها أم تراها طلبت من الناس أن يعبدوها وابنها يسوع مثلما يقول مصدر غير مسيحى.
■ كيف يمكن أن نتعامل مع تراث الآباء حول العذراء؟
- هو تراث يضم الرأى والرأى الآخر، لا نكفر أحدا ونطهر آخر، فهى عادة مقيتة، نأخذ بما يتفق مع روح النص الكتابى، ونناقش الرأى الذى نراه مخالفا للعقيدة، أو يطرحها بتعبير مغاير، فإن لفظة هرطقة فى أصلها اليونانى لم تكن بالمذاق الكفرى السيئ، فهى لفظا واصطلاحا من الإريسيا وتعنى الرأى المخالف أو الآخر، فلا يليق أن نقف فى مواجهة الرأى الآخر على أنه رأى يكفر صاحبه، بل نناقشه بروية ومحب واحتضان، تماما مثل عقيدة الحبل بلا دنس التى يقر بها إخواننا الكاثوليك وترفضها الكنيسة الأرثوذكسية وسوف نأتى إليها فى حينها، حيث تم عرض الرأى والرأى الآخر دون تخوين وتكفير قد تسمح به السياسة لكن لا يليق بالحضن الأبوى فى الكنيسة الواحدة.
■ هل ترى أن الملاك عندما عرض على العذراء البشارة انتظر ردا بالموافقة أو الرفض تدعيما لحرية الإنسان فى الاختيار؟
- من جهة قبولها لبشارة الملاك جبرائيل:
يروق لى ما كتبه المطران كيرلس سليم، وأنقل عنه:
«لقد استسلمت بكلّ كيانها لدعوة الله إليها لتصير أمًّا لابنه الوحيد، فصار كيانها كلّه شعلة حبّ ويَنبوع حياة بشريّة. وبقدرة الرّوح القدس الذى ظلّلها، استطاع كيانها البشريّ أن يكوّن كيانًا بشريًّا جديدًا. فهى إذاً فيض من الحياة وينبوع حياة. بحيث يصحّ القول إنّ مريم هى أمّ وأكثر أمومة من أيّ أمّ سواها، لأّنها وحدها، دون مباشرة رجل، أعطت ابنها وربّنا يسوع المسيح كلّ ما فيه من طبيعة بشريّة. إنّ ابنها قد استمدّ بشريّته كاملة من جسدها ودمها. بتعبير آخر، لم تكن مريم بحاجة إلى أن تضمّ بعضًا من مزاياها الأنثويّة إلى مزايا رجل من البشر لتكوين إنسانيّة ابنها. لقد أظهر علم الوراثة أنّ كلّ خليّة من خلايا جسم الطفل مركبّة بصورة متجانسة ومتساوية ممّا ينتقل إليها بالوراثة من كلا الوالدين. أمّا طبيعة المسيح الإنسانيّة فقد استمدّها كلّها من طبيعة أمّه».
■ هل يبالغ الأقباط فى تكريم مريم؟
- إنّه لمِن المهمّ جدًّا أن نؤكّد أنّ مريم لا يمكن إدراكها إلّا على ضوء المسيح. كما أنّه من الضلال النظر إلى المسيح على ضوء مريم. فالمسيح هو اللؤلؤة (متى 13/ 45: «يشبه ملكوت السماوات إنسانًا تاجرًا يطلب لآلئ حسنة. فلمّا وجد لؤلؤة نفيسة، مضى وباع كلّ ما كان له واشتراها»)، ومريم هى الصدفة التى أبرزت اللؤلؤة، كما نرنّم لها فى قانون المدايح فى الطقس البيزنطيّ: «السلام عليكِ يا صَدفة عجيبة جدًّا أبرزت اللؤلؤة الإلهيّة» (الأوشية الخامسة، 5). والقول «إنّ مريم هى سبيلنا إلى الله» لا يعنى مطلقًا أنّ المسيح بعيد عنّا، أو أنّ بيننا وبينه هوّة لا نستطيع العبور فوقها إلّا بواسطة مريم. فالمسيح هو وحده عنصر خلاصنا. ولكن، بما أنّ مريم هى أمّ المسيح، والكائن البشريّ الأوّل الذى قبل عطيّة الله قبولاً أسمى، نعتبر نحن البشر أنّ جوابها للملاك «ليكن لى بحسب قولك» ينطوى على إيمان كلّ منّا. لذلك، معها وتحت كنفها، ننفتح على عطيّة الله ونلتقى المسيح الذى هو خلاصنا الأوحد.
فإنّ الحقيقة الخلاصيّة، بالنسبة إلينا نحن المسيحيّين، ليست صيغة فكريّة نعتنقها، بل هى شخص نتّحد به، شخص يسوع المسيح الإلهيّ، الذى هو رسالة سعادة عارمة. المسيح هو حقّاً «المحبّ البشرى»، أى الذى يحبّ كلّ كائن بشريّ، والذى يفيض على الجميع من دفق الخير والصلاح ما يفوق تصوّرات البشر وتوقّعاتهم. ولقد أفاض على مريم العذراء أمّه ما قصده منذ الأزل لخلاص البشر.
إنّ هذا التعليم فى مريم يعبّر عنه أجمل تعبير نشيد المدائح:
«الأقطار تمدحك مغبّطة، وتصرخ إليك: السلام عليكِ، أيّتها النقيّة، يا كتابًا كُتِبَ فيه الكلمة بإصبع الآب. فإليه ابتهلى، يا والدة الإله، أن يُكتب أبناؤكِ فى سفر الحياة» (الأوشية السابعة، 4).
ويؤكّد فى موضع آخر التقابل العجيب بين الله الذى يمسك الخليقة كلّها فى قبضته ويغذّى كلّ كائن حيّ، والطفل الذى تمسكه مريم بين ذراعيها وتغذيه بلبنها:
«لقد قبلت فى أحشائك الكلمة، وحملت حامل الكون، وغذوت باللبن، يا نقيّة المغذّى المسكونة كلّها بإشارة» (الأوشية الثامنة، 10).
وفى صلوات عيد الميلاد نذهل للتقابل الذهل بين الأزليّ الذى خلق الزمن والذى يبدأ اليوم ليحيا فى الزمن:
«البتول حبلت، والإله الأزليّ وُلد. الولادة المنظورة. وما يتمّ يفوق الطبيعة. يا للسرّ الرهيب! إنّ ما نمسك به لا يوصف، وما نراه يفوق الإدراك! مباركة أنت، أيّتها العذراء النقيّة، يا ابنة آدم المجبول من التراب، ويا أمّ الله العليّ».
هناك ألفاظ ترد مرارًا فى الصلوات الليتورجيّة للتعبير عن حضور ابن الله المتجسّد فى أحشاء مريم: فهو «الذى لا يحويه مكان» و«اللا متناهى»، و«غير المحدود». فمريم قد وسعت فى أحشائها «الذى لا يحويه مكان»، و«غير المحدود». لذلك هى «أرحب من السماوات».
■ ما الفرق بين كتابات الأب متى المسكين عن العذراء وكتابات البابا شنودة عنها؟
الأب متى المسكين كان مهموما بالجانب المستيكى أى الصوفى والروحى والرهبانى فى حياة القديسين وعلى رأسهم العذراء مريم، حياة فى صمت وتأمل وصلاة وله مؤلف شهير باسم العذراء والدة الإله الثيؤطوكوس، يفتح به الباب إلى كتابات من نوع جديد بمذاقات ليتورجية فيها عطر وحنايا البخور والتسابيح والصلوات والمزامير التى كانت القديسة مريم تلهج بها، بعيدا عن النسق العربى القديم الذى دام طويلا ينحو منحى الهجوم والتقريع والتكفير والهجو اللاذع لكتابات الغرب. ثم يمكن للقارئ المتعمق فى أسلوب الأب متى المسكين أن يكتشف أصالة التراث الأرثوذكسى الآبائى والذى يعيدنا إلى الأصول والجذور الأولى حول قضايا الخلق والسقوط والتجسد والخلق الجديد والفداء والتأليه، والوحدة، وحدة الإنسانية المفتداة فى الرأس المسيح، وهو ما أثار لغطا حادا لم يخمد عفاره حتى الآن، وفى المقابل كان التصدى العجيب من جانب بعض الكتابات الأخرى الرافضة للتأصيل اللاهوتى لسر التجسد، كسر انجماع كل البشرية فى إنسانية الله المتأنسن يسوع، وكان الجدل يدور حول بديهات سر التجسد، بشكل قد يحتاج منا إلى طرح متسع لا يستوعبه المقام هاهنا. أما كتابات البابا شنودة فيغلب عليها التأمل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.