رحيل إمام الحديث.. محطات مضيئة في حياة الدكتور أحمد عمر هاشم    اعرف اسعار الذهب اليوم الثلاثاء 7-10-2025 في بني سويف    موقع عبري يكشف عن حدود وضعها نتنياهو لوفد تل أبيب في المفاوضات مع حماس    ترامب: اتخذت قرارا بشأن توريد صواريخ «توماهوك» لأوكرانيا    اليوم عقب صلاة الظهر.. تفاصيل جنازة وعزاء الدكتور أحمد عمر هاشم    ناصر المزداوي في مهرجان الإسكندرية السينمائي: مصر تسكن في قلبي رغم المسافات    العالم يبايع مصر في اليونسكو.. فوز تاريخي للدكتور خالد العناني يُكرّس الريادة الثقافية المصرية    غادة عادل عن عملية التجميل: قولت للدكتور مش عايزة أبان متغيرة    أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم الثلاثاء 7 أكتوبر 2025    مشيرة إسماعيل: عشت أجواء حرب أكتوبر وسط الجنود على الجبهة وحضرت كل المعارك من تاني يوم (فيديو)    ماجد الكدواني: شخصيتي في «فيها إيه يعني» تشبهني.. إنسان عاوز يرضي الكل    «بعد 3 ماتشات في الدوري».. إبراهيم سعيد: الغرور أصاب الزمالك واحتفلوا بالدوري مبكرا    أبو ريدة يصل المغرب ويستقبل بعثة منتخب مصر استعدادًا لمواجهة جيبوتي    بلاغ كاذب.. حقيقة احتجاز طفل داخل ماسورة غاز بناهيا | صور    تحميل التقييمات الأسبوعية 2025-2026 لجميع المراحل الدراسية (PDF).. رابط مباشر    بعد تغيير أسعار الفائدة.. أعلى عائد على شهادات الادخار المتاحة حاليًا بالبنوك (تفاصيل)    وزيرة التخطيط: هدفنا تحسين جودة حياة المواطن.. وسقف الاستثمارات الحكومية رفع مساهمة القطاع الخاص ل57%    اشتباكات عنيفة بين قوات «قسد» والجيش السوري في حلب    نائب رئيس حزب المؤتمر: الشراكة المصرية السعودية ركيزة استقرار الشرق الأوسط    بعثة منتخب مصر تصل إلى المغرب لمواجهة جيبوتي في تصفيات كأس العالم (صور)    «وهم».. عرض جديد يضيء خشبة المعهد العالي للفنون المسرحية ضمن مهرجان نقابة المهن التمثيلية    جريمة في قلب التاريخ.. سرقة لوحة أثرية من سقارة بطريقة غامضة    النيابة الإدارية تُهنئ الرئيس السيسي بذكرى انتصارات أكتوبر    قرار جديد بشأن البلوجر دونا محمد بتهمة نشر فيديوهات خادشة    تحرك أمني عاجل بعد بلاغ وجود أطفال داخل ماسورة غاز في الجيزة (صور)    منسيات 6 أكتوبر .. الاحتفاء بالفريق "الشاذلي" يُنسب إلى "مرسي" و"المزرعة الصينية" تفتقد القائد "عبد رب النبي حافظ"    التموين: صادرات السكر البني إلى دول الكوميسا بلغت 40 ألف طن العام الماضي    «أكتوبر صوت النصر».. الجيزة تحتفل بذكرى الانتصار ال52 بروح وطنية في مراكز الشباب    الأهلي يكافئ الشحات بعقده الجديد    تعرف على موعد بدء تدريبات المعلمين الجدد ضمن مسابقة 30 الف معلم بقنا    اشتغالة تطوير الإعلام!    تسليم التابلت لطلاب أولى ثانوي 2025-2026.. تعرف على رسوم التأمين وخطوات الاستلام    محافظ الفيوم يشهد احتفالية الذكرى ال52 لانتصارات أكتوبر المجيدة    «عيدك في الجنة يا نور عيني».. الناجية من«جريمة نبروه» تحيي ذكرى ميلاد ابنة زوجها برسالة مؤثرة    هدد خطيبته بنشر صورها على الواتساب.. السجن عامين مع الغرامة لشاب في قنا    بالصور.. إزالة 500 حالة إشغال بشارعي اللبيني والمريوطية فيصل    شواطئ مطروح ليلة اكتمال القمر وطقس معتدل    حزب "المصريين": كلمة السيسي في ذكرى نصر أكتوبر اتسمت بقوة التأثير وعمق الرسالة    وثائقي أمريكي يكشف أسرار حرب أكتوبر: تفاصيل نجاح استراتيجية السادات في خداع إسرائيل وانهيار أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر»    فنزويلا تحذر من خطة للهجوم على سفارة أمريكا في كاراكاس    فلسطين.. غارات إسرائيلية مكثفة تهز حي الصبرة في غزة    أسعار الحديد في أسيوط اليوم الثلاثاء 7102025    عيار 21 الآن يسجل رقمًا قياسيًا جديدًا.. سعر الذهب اليوم الثلاثاء 7-10-2025 في الصاغة    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الثلاثاء 7 أكتوبر 2025    بعض الأخبار سيئة.. حظ برج الدلو اليوم 7 أكتوبر    نائب وزير الصحة يحيل الطاقم الإداري بمستشفى كفر الشيخ للتحقيق    «هيفضل طازة ومش هيسود طول السنة».. أفضل طريقة لتخزين الرمان    ميثاق حقوق طفل السكر.. وعن سلامة صحة الأطفال    بمكونات في المنزل.. خطوات فعالة لتنظيف شباك المطبخ    ميدو: صلاح يتعرض لحملة شرسة لتشويه صورته    منتخب مصر المشارك في كأس العرب يخوض مرانه الأول بالمغرب    الصباحي يوضح قانونية تغيير مسدد ركلة الجزاء بعد قرار الإعادة    مواقيت الصلاه غدا الثلاثاء 7 اكتوبر 2025فى المنيا.....تعرف عليها بدقه    للمرأة الحامل، أطعمة مهدئة للمعدة تناوليها بعد التقيؤ    هل الزواج العُرفي يكون شرعيًا حال اكتمال جميع الشروط؟.. نقيب المأذونين يوضح    أمين الفتوى: وحدة الصف والوعي بقيمة الوطن هما سر النصر في أكتوبر المجيد    هاني تمام: حب الوطن من الإيمان وحسن التخطيط والثقة بالله سر النصر في أكتوبر    هل يحق للزوج الحصول على أموال زوجته؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأسئلة الشائكة حول السيدة مريم
نشر في البوابة يوم 11 - 08 - 2016

«سر مريم».. ليس من السهل الدخول فى أعماق سيدة نساء العالمين ولكن العقل لا يهدأ أبدا عندما يجادل حول العذراء، ولماذا هى بالذات التى اختيرت لهذه المهمة المقدسة؟ وما موقع علاقتها بالله وكيف حملت بكلمته بدون زرع بشرى؟ وهل يمكن تبسيط ذلك والوصول لجوهر الفهم المخفى؟.. يؤكد لنا الدكتور العلامة جرجس كامل يوسف أن هذه الأسئلة طرحها آباء الكنيسة منذ القرون الأولى للميلاد وفى هذا الحوار نحاول أن نقترب من هذه المنطقة الملغمة جدا.
■ لماذا العذراء مريم بالذات اختيرت أمًا للمسيح كلمة الله؟
- إنّ الله إلهنا حقيقة رائعة، وأعماله عظمة وجلال، هذا ما تجلّى فيما صنعه الله فى مريم من عظائم، ففيها يسمو الله المنطق البشريّ ومقاييسه ويتخطّى قوانين الطبيعة البشريّة وحدودها، فإنّ من وضع النواميس لتكوين الطبيعة البشريّة وتطويرها قد وضع لذاته نواميس جديدة أروع من الأولى، ومن العبث محاولة طرح الأسئلة حول هذه النواميس الجديدة فى حين لا تزال النواميس الأولى جيّدة وصالحة، إنّ محاولة كهذه لا ينتج منها سوى التخبّط فى لجج الضباب، وهى إلى ذلك امتهان لقدرة الله الذى خلق من العدم هذا الكون الفائق الجمال، وعلى كلّ من الأسئلة التالية: لماذا؟ من أين؟ كيف؟ ليس سوى جواب واحد: هذا هو عمل الله الذى تجلّى لنا فى شخص يسوع المسيح الذى نؤمن أنّه كلمة الله وابن الله المتجسّد.
إننا إذ نجول فى فكر آباء الكنيسة شرقا وغربا نرى مدى الفهم اللاهوتى السليم المبنى على روح الكتاب المقدس والحياة الكنسية الأولى، والذى يكرم العذراء مريم من أجل انتسابها لله وولادتها لله الكلمة المتجسد من أجل خلاصنا ومن أجل إيمانها وفضائلها، نحن إذ ننظر إلى سيرتها ونطوبها ونطلب صلواتها نتذكر كيف أن السيد المسيح صنع أولى معجزاته فى عُرس «قانا الجليل» بطلبات القديسة مريم، كما أن العذراء القديسة مريم توصينا أن نعمل بما يوصينا به الرب يسوع المسيح «قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه» (يو 2 : 5).
ويفسر لنا القديس «أغريغوريوس» الصانع للعجائب لماذا اختارت النعمة الإلهية العذراء مريم دون سواها من النساء، إنها اتحدت بالله بالصلاة والتأمل وبرهنت على حكمتها ورزانتها (أم الله اتحدت عقليا بالله بدوام الصلاة والتأمل وفتحت طريقا نحو السماء جديدا. سمت به فوق المبادئ والظنون الذى هو الصمت العقلى وصار لها الصمت القلبى وكما يقول الكتاب المقدس {أما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به فى قلبها}، اختارت النعمة مريم العذراء دون سواها من بين كل الأجيال لأنها بالحقيقة قد برهنت على رزانتها فى كل الأمور ولم توجد مثلها امرأة أو عذراء فى كل الأجيال، جاءت الكلمة الإلهية من الأعالى، وفى أحشائها المقدسة أعيد تكوين آدم».
يوضح القدّيس «إيريناوس» دور مريم العذراء فى التجسد أو هذا الخلق الجديد:
«كما أنّ يد الله خلقت آدم من أرض عذراء، كذلك لمّا جمع كلمة الله الإنسان فى شخصه، ولد من مريم العذراء. وهكذا إلى جانب حوّاء، ولكن على خلافها، قامت مريم بدور فى عمل الجمع هذا الذى هو عمل خلاص الإنسان، لمّا حبلت بالمسيح. حوّاء أغواها الشرّ وعصت الله. أمّا مريم فاستسلمت لطاعة الله وصارت المحامية عن حوّاء العذراء. إنّ حوّاء، وهى بعد عذراء، كانت سبب الموت لها وللجنس البشريّ بأسره. أمّا مريم العذراء فبطاعتها صارت لها وللجنس البشريّ بأسره سبب خلاص. من مريم إلى حوّاء هناك إعادة للمسيرة عينها، إذ ما من سبيل لحلّ ما تمّ عقده إلّا بالرجوع باتّجاه معاكس لفكّ الحبال التى تمّ حبكها. لذلك يبدأ لوقا نسب المسيح ابتداءً من الربّ ويعود إلى آدم (لو 3/ 22-38)، مظهرًا أنّ الحركة الحقيقيّة للولادة الجديدة لا تسير من الأجداد إليه بل منه إلى الأجداد، وفق الولادة الجديدة فى إنجيل الحياة.
هكذا أبطلت طاعة مريم معصية حوّاء. ما عقدته حوّاء بعدم إيمانها حلّته مريم بإيمانها. لمحو الضلال الذى لحق بالتى كانت مخطوبة العذراء حوّاء حمل الملاك البشارة الجديدة الحقّة إلى التى كانت مخطوبة. العذراء حوّاء ضلّت بكلام الملاك واختبأت من وجه الله بعد أن عصت كلمته، أمّا مريم فبعد أن سمعت من الملاك البشرى الجديدة، حملت الله فى أحشائها لأنها أطاعت كلمته. إذا كانت الأولى عصت الله، فالثانية رضيت بأن تطيعه. وهكذا صارت العذراء مريم المحامية عن العذراء حوّاء. وكما ربط الموت الجنس البشريّ بسبب امرأة، كذلك خُلّصَ الجنس البشريّ بواسطة امرأة».
هكذا رأى آباءُ الكنيسة فى القرنين الأوّل والثانى أنّ لمريم دورًا أساسيًّا فى تاريخ الخلاص. وهذا الدور هو دور مزدوج: فقد حبلت بيسوع المسيح بشكل بتولى. إنّها أمّ المسيح ابن الله. ثمّ إنّها، بإيمانها وطاعتها لكلام الله، قد أبطلت معصية حوّاء الأمّ الأولى، وهكذا شاركت بملء حرّيتها فى الخلاص الذى جاءنا به ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح.
إنّ طبيعة المسيح البشريّة قد تكوّنت فى أحشاء مريم العذراء بقدرة الله الخلاّقة. فالله وحده أعطى مريم أن تكون أمًّا لابنه الله الكلمة المتأنسن، إذ خلق مباشرةً الحياة فى أحشائها، من هذه الحقيقة ينتج أنّ هناك علاقة فريدة وألفة لا توصف بين أبوّة الله الخلاّقة وبتوليّة العذراء فى الجسد. لذلك دعا التقليد الكنسيّ مريم العذراء «عروس الله». لا ريب أنّ هذه العبارة قد تبدو تجديفًا على اسم الله لمن لم يدخل بالإيمان فى سرّ عمل الله على الأرض. لذلك يجب استعمالها بحذر وتحفّظ، مع التنبّه إلى أنّ هذه العبارة يجب ألّا تؤخذ بمعناها الحرفى، بل جلّ قصدها التّأكيد أنّ مريم قد حبلت بالمسيح بشكل بتوليّ، وأنّ ابنها بالجسد هو نفسه ابن الله الكائن منذ الأزل مع الآب والرّوح. فالمسيح الرب والسيد بقى فى أحشاء مريم إلهًا تامًّا، أحد الثالوث الأقدس، وإن اتّخذ طبيعة بشريّة تامّة. فمن الجهة أو الطبيعة البشريّة أى الناسوت هو ابن العذراء وحدها، إذ استمدّ منها بقدرة الله كلّ ما جعله إنسانًا، ومن الجهة أو الطبيعة الإلهيّة أو الناسوت، هو ابن الآب الأزليّ. وهكذا تحقّق فى مريم العذراء هذا الالتئام العجيب: فالطفل الذى ولدته هو منها فى طبيعته البشريّة، ومن الآب وحده فى طبيعته الإلهيّة. فالله هو أبوه فى السّماء، ومريم هى أمّه على الأرض. لذا طاب للقديس «كيرلس» وكل آباء القرنين الخامس والسادس، أن يكرروا العبارة الرائعة، «الله اللوغوس الكلمة المتجسد هو هوموسيوس أى واحد فى الطبيعة والجوهر مع الله الأب من جهة اللاهوت، وهوموسيوس مع أمه والبشرية المفدية أى واحد فى الجوهر والطبيعة البشرية من جهة الناسوت».
الله حاضر إذاً فى مريم العذراء بقدرته الخلاّقة وبأبوّته الأزليّة. وابن الله حاضر فى مريم لأنّها صارت له أمًّا. والأمومة هى حضور، أى علاقة بين شخصين. إنّها ينبوع منه تتفجّر حياة تبقى مماثلة للينبوع الذى صدرت منه، ومتّصلة به اتّصالا وثيقًا. إنّ العلاقة التى تجمع بين الأمّ وابنها هى أعمق نوع من الحضور. وقد اكتسبت الأمومة فى مريم حضورًا أكثر عمقًا وأكثر شموليّة. فالعلاقة فيها هى بين الخالق وخليقته، بحيث إنّ السماء، من خلال أمومة مريم، ارتبطت بالأرض ارتباطًا دائمًا، والأرض صارت سماء. الله اتّحد هو نفسه بخليقته، والخليقة تألّهت. ابن الله، الله الحق من الله الحق، صار واحدًا من بنى البشر وأخًا لكلّ كائن بشريّ، وجعل كلّ أبناء البشر واحدًا معه (بلغة نيقية، هوموسيوس معه)، وإخوة وأخوات حقيقيين بعضهم لبعض. وليس أدلّ على ذلك ممّا قاله الشاعر الألمانى «غوتيه» موجزًا تعليم الديانة المسيحيّة فى مريم العذراء: «المرأة هى السبيل إلى السماء». لا سبيل آخر أمام الله كى يتّحد بالبشريّة، وأمام البشر كى يرتفعوا إلى الله.
■ ما موقعُ العذراء مريم فى فكر الآباء؟
- ركّز الآباء فى القرنين الأوّل والثانى على دور مريم العذراء فى قصد الله من خلال الكتاب المقدّس وفى مقارنة أقاموها بين حوّاء ومريم العذراء، «حواء الأولى وحواء الثانية، تماما مثل آدم الأول وآدم الثانى».
ومن بين العديد من الآباء الذين تحدثوا وكتبوا عن القديسة مريم، نختار بحسب المطران «كيرلس سليم» بعض النماذج القليلة، ومنها ما قاله القديس «إغناطيوس» الأنطاكى عام 107م فى رسائله السبع إلى الكنائس، ويؤكّد بتوليّتها وأمومتها الإلهيّة. فيقول فى رسالته إلى الأفسسيين: «واحد هو طبيبنا، مخلوق وغير مخلوق، جسد وروح، إله فى الإنسان، وحياة حقيقيّة فى الموت، مولود من مريم ومولود من الله» (رقم 7). ثمّ يتكلّم على أسرار ثلاثة لم يعرفها الشيطان، فيقول: «لم يدرك سلطان هذا العالم بتوليّة مريم ولا أمومتها ولا موت الربّ. هذه الأسرار التى تمّت فى صمت الله» (رقم 19).
■ ما أهم الأسئلة التى طرحها الآباء حول العذراء؟
- كان السؤال الملح، هل العذراء أم الله أم المسيح الإنسان، أم الله المتأنسن وقد حسم القديس كيرلس الكبير الأمر بمصطلح العذراء ثيوطوكوس، أى أم الله. وثمة سؤال آخر حول هل نحن نتعبد للعذارء أم نطوبها، وما مركز العذراء فى تدبير الخلاص، وهل هى أمة الرب عبدة المسيح فتاة الآب التى اختارها أم تراها طلبت من الناس أن يعبدوها وابنها يسوع مثلما يقول مصدر غير مسيحى.
■ كيف يمكن أن نتعامل مع تراث الآباء حول العذراء؟
- هو تراث يضم الرأى والرأى الآخر، لا نكفر أحدا ونطهر آخر، فهى عادة مقيتة، نأخذ بما يتفق مع روح النص الكتابى، ونناقش الرأى الذى نراه مخالفا للعقيدة، أو يطرحها بتعبير مغاير، فإن لفظة هرطقة فى أصلها اليونانى لم تكن بالمذاق الكفرى السيئ، فهى لفظا واصطلاحا من الإريسيا وتعنى الرأى المخالف أو الآخر، فلا يليق أن نقف فى مواجهة الرأى الآخر على أنه رأى يكفر صاحبه، بل نناقشه بروية ومحب واحتضان، تماما مثل عقيدة الحبل بلا دنس التى يقر بها إخواننا الكاثوليك وترفضها الكنيسة الأرثوذكسية وسوف نأتى إليها فى حينها، حيث تم عرض الرأى والرأى الآخر دون تخوين وتكفير قد تسمح به السياسة لكن لا يليق بالحضن الأبوى فى الكنيسة الواحدة.
■ هل ترى أن الملاك عندما عرض على العذراء البشارة انتظر ردا بالموافقة أو الرفض تدعيما لحرية الإنسان فى الاختيار؟
- من جهة قبولها لبشارة الملاك جبرائيل:
يروق لى ما كتبه المطران كيرلس سليم، وأنقل عنه:
«لقد استسلمت بكلّ كيانها لدعوة الله إليها لتصير أمًّا لابنه الوحيد، فصار كيانها كلّه شعلة حبّ ويَنبوع حياة بشريّة. وبقدرة الرّوح القدس الذى ظلّلها، استطاع كيانها البشريّ أن يكوّن كيانًا بشريًّا جديدًا. فهى إذاً فيض من الحياة وينبوع حياة. بحيث يصحّ القول إنّ مريم هى أمّ وأكثر أمومة من أيّ أمّ سواها، لأّنها وحدها، دون مباشرة رجل، أعطت ابنها وربّنا يسوع المسيح كلّ ما فيه من طبيعة بشريّة. إنّ ابنها قد استمدّ بشريّته كاملة من جسدها ودمها. بتعبير آخر، لم تكن مريم بحاجة إلى أن تضمّ بعضًا من مزاياها الأنثويّة إلى مزايا رجل من البشر لتكوين إنسانيّة ابنها. لقد أظهر علم الوراثة أنّ كلّ خليّة من خلايا جسم الطفل مركبّة بصورة متجانسة ومتساوية ممّا ينتقل إليها بالوراثة من كلا الوالدين. أمّا طبيعة المسيح الإنسانيّة فقد استمدّها كلّها من طبيعة أمّه».
■ هل يبالغ الأقباط فى تكريم مريم؟
- إنّه لمِن المهمّ جدًّا أن نؤكّد أنّ مريم لا يمكن إدراكها إلّا على ضوء المسيح. كما أنّه من الضلال النظر إلى المسيح على ضوء مريم. فالمسيح هو اللؤلؤة (متى 13/ 45: «يشبه ملكوت السماوات إنسانًا تاجرًا يطلب لآلئ حسنة. فلمّا وجد لؤلؤة نفيسة، مضى وباع كلّ ما كان له واشتراها»)، ومريم هى الصدفة التى أبرزت اللؤلؤة، كما نرنّم لها فى قانون المدايح فى الطقس البيزنطيّ: «السلام عليكِ يا صَدفة عجيبة جدًّا أبرزت اللؤلؤة الإلهيّة» (الأوشية الخامسة، 5). والقول «إنّ مريم هى سبيلنا إلى الله» لا يعنى مطلقًا أنّ المسيح بعيد عنّا، أو أنّ بيننا وبينه هوّة لا نستطيع العبور فوقها إلّا بواسطة مريم. فالمسيح هو وحده عنصر خلاصنا. ولكن، بما أنّ مريم هى أمّ المسيح، والكائن البشريّ الأوّل الذى قبل عطيّة الله قبولاً أسمى، نعتبر نحن البشر أنّ جوابها للملاك «ليكن لى بحسب قولك» ينطوى على إيمان كلّ منّا. لذلك، معها وتحت كنفها، ننفتح على عطيّة الله ونلتقى المسيح الذى هو خلاصنا الأوحد.
فإنّ الحقيقة الخلاصيّة، بالنسبة إلينا نحن المسيحيّين، ليست صيغة فكريّة نعتنقها، بل هى شخص نتّحد به، شخص يسوع المسيح الإلهيّ، الذى هو رسالة سعادة عارمة. المسيح هو حقّاً «المحبّ البشرى»، أى الذى يحبّ كلّ كائن بشريّ، والذى يفيض على الجميع من دفق الخير والصلاح ما يفوق تصوّرات البشر وتوقّعاتهم. ولقد أفاض على مريم العذراء أمّه ما قصده منذ الأزل لخلاص البشر.
إنّ هذا التعليم فى مريم يعبّر عنه أجمل تعبير نشيد المدائح:
«الأقطار تمدحك مغبّطة، وتصرخ إليك: السلام عليكِ، أيّتها النقيّة، يا كتابًا كُتِبَ فيه الكلمة بإصبع الآب. فإليه ابتهلى، يا والدة الإله، أن يُكتب أبناؤكِ فى سفر الحياة» (الأوشية السابعة، 4).
ويؤكّد فى موضع آخر التقابل العجيب بين الله الذى يمسك الخليقة كلّها فى قبضته ويغذّى كلّ كائن حيّ، والطفل الذى تمسكه مريم بين ذراعيها وتغذيه بلبنها:
«لقد قبلت فى أحشائك الكلمة، وحملت حامل الكون، وغذوت باللبن، يا نقيّة المغذّى المسكونة كلّها بإشارة» (الأوشية الثامنة، 10).
وفى صلوات عيد الميلاد نذهل للتقابل الذهل بين الأزليّ الذى خلق الزمن والذى يبدأ اليوم ليحيا فى الزمن:
«البتول حبلت، والإله الأزليّ وُلد. الولادة المنظورة. وما يتمّ يفوق الطبيعة. يا للسرّ الرهيب! إنّ ما نمسك به لا يوصف، وما نراه يفوق الإدراك! مباركة أنت، أيّتها العذراء النقيّة، يا ابنة آدم المجبول من التراب، ويا أمّ الله العليّ».
هناك ألفاظ ترد مرارًا فى الصلوات الليتورجيّة للتعبير عن حضور ابن الله المتجسّد فى أحشاء مريم: فهو «الذى لا يحويه مكان» و«اللا متناهى»، و«غير المحدود». فمريم قد وسعت فى أحشائها «الذى لا يحويه مكان»، و«غير المحدود». لذلك هى «أرحب من السماوات».
■ ما الفرق بين كتابات الأب متى المسكين عن العذراء وكتابات البابا شنودة عنها؟
الأب متى المسكين كان مهموما بالجانب المستيكى أى الصوفى والروحى والرهبانى فى حياة القديسين وعلى رأسهم العذراء مريم، حياة فى صمت وتأمل وصلاة وله مؤلف شهير باسم العذراء والدة الإله الثيؤطوكوس، يفتح به الباب إلى كتابات من نوع جديد بمذاقات ليتورجية فيها عطر وحنايا البخور والتسابيح والصلوات والمزامير التى كانت القديسة مريم تلهج بها، بعيدا عن النسق العربى القديم الذى دام طويلا ينحو منحى الهجوم والتقريع والتكفير والهجو اللاذع لكتابات الغرب. ثم يمكن للقارئ المتعمق فى أسلوب الأب متى المسكين أن يكتشف أصالة التراث الأرثوذكسى الآبائى والذى يعيدنا إلى الأصول والجذور الأولى حول قضايا الخلق والسقوط والتجسد والخلق الجديد والفداء والتأليه، والوحدة، وحدة الإنسانية المفتداة فى الرأس المسيح، وهو ما أثار لغطا حادا لم يخمد عفاره حتى الآن، وفى المقابل كان التصدى العجيب من جانب بعض الكتابات الأخرى الرافضة للتأصيل اللاهوتى لسر التجسد، كسر انجماع كل البشرية فى إنسانية الله المتأنسن يسوع، وكان الجدل يدور حول بديهات سر التجسد، بشكل قد يحتاج منا إلى طرح متسع لا يستوعبه المقام هاهنا. أما كتابات البابا شنودة فيغلب عليها التأمل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.