رسالة بولس الرّسول إلى أهل رومية (8) أن تسلك بالمسيح يعني أن تسلك في حياتك البشريّة إلهيّاً. قد يبدو هذا المنطق صعباً بل قاسيّاً بشريّاً إلّا إذا فهمنا بدقّة مفهوم الألوهيّة الّتي تجلّت بيسوع المسيح. مفهوم الألوهيّة في المسيحيّة يتعارض مع شتّى المفاهيم عن الله، ولا يتوافق مع ما يقدّره الإنسان ويتصوّره عن الله. وقد قيل أنّ الإنسان خلق إلهه وتصوّره بحسب مفهومه، ومنطقه وطباعه، وتجربته. وقد يصحّ ذلك عندما يُنزِل الإنسان الله إلى مستواه، فيحوّله إلى فكرة أو أيديولوجية. وأمّا في المسيحيّة فالموضوع مختلف لأنّ المسيح حرّرنا من فكرة الإله وأظهر لنا الإله الشّخص. أعتقنا من الإله السّيّد المتعالي، وأدخلنا في سرّ الله المحبّة. صوّر الإنسان الله غاضباً، منتقماً، جبّاراً، قاتلاً… لكنّه لم يتمكّن من تصوير الله/ محبّة، لأنّ الإنسان يخضع لمشاعره المتناقضة، وصراعه مع الحبّ وبالتّالي لا يعرف الحبّ الإنسانيّ الكامل، ولا يستطيع إدراك الله المحبة وبلوغ جوهره. وأمّا الّذي لبس المسيح أدرك جوهر الله المحبّة وتبدّل منطقه وتجلّت له حقيقة الله. "لأنّ كلّ الّذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله إذ لم تأخذوا روح العبوديّة أيضاً للخوف بل أخذتم روح التّبني الّذي به نصرخ يا أبانا" (رو 15،14:8). وبالتّالي لا يقدر المسيحيّ أن يعود أدراجه ويتبنّى مفهوماً إلهيّاً مغايراً ويتأثّر بثقافات معيّنة. هذا لا يعني أن يفصل نفسه عن محيطه ويتقوقع على ذاته، بل هذا يعني الالتزام بالولادة الجديدة جديّاً بغضّ النّظر عن كلّ شيء. فالانفتاح على الثّقافات لا يعني إطلاقاً الذّوبان فيها. بالمعموديّة المقدّسة ينتقل الإنسان إلى رتبة أعلى من الإنسانيّة ألا وهي المسيحيّة الّتي بها يقبل بنوّته لله، ويصير ابناً لله. "وما دمنا أبناء الله، فإنّنا ورثة أيضاً، ورثة الله ووارثون مع المسيح. إن كنّا نتألّم معه لكي نتمجّد أيضاَ معه." (رو 17:8). هذه الآية تشير إلى أمرين مهمّين: الأوّل الشّركة بين المؤمن والله، والثّاني المجد الإلهي للإنسان. الشّركة مع الله والمجد الإلهي الممنوح للإنسان يظهران قيمة الإنسانيّة المقدّسة في عينيّ الله. فالله يريد الإنسان ابناً شريكاً لا عبداً مملوكاً. الابن يعلم كلّ شيء عن أبيه ويحيا معه، ويتشارك معه كلّ شيء وأمّا العبد فهو ملك خاصّ لسيّده، لا يشارك ولا يبدي رأياً ولا ينال مجداً. وهنا تنتفي فكرة الجنّة بمعنى التّعويض عمّا حرم منه الإنسان على الأرض، لأنّ السّالك بالمسيح الحيّ يحيا السّماء هنا على الأرض، ويخطو إليها في مسيرة حجّ نحو قلب الله أبيه. ومن لم يعرف السّماء هنا في هذا العالم لن يتعرّف عليها حتّى وإن وصل إليها.