تعد ثنائية الحداثة والتراث أو المعاصرة و الأصالة من قضايا الفكر العربي التي لا يزال الجدل فيها لم يحسم إلى الآن .إذ مع الانفتاح العالمي الذي شهده الفكر العربي بعد الاطلاع الواسع على العالم ، وما عند الغرب من ثقافات ،اختلفت وجهات نظر الباحثين العرب المحدثين إزاء هذه الثنائية (الحداثة والتراث) وأصبح كل فريق ينظر إليهما من وجهة نظر شخصية قد تغيب عنها الموضوعية أحيانا أو تغلب عليها النظرة التعصبية أحيانا أخرى. فنسمع كثيرا أصواتا تتعالى بشكل أو بأخر ،لتضع موضع السؤال لماذا الاعتناء بالتراث ؟ في دعوى أن هذا الاعتناء بالتراث سيصرفنا عن الحداثة ومتطلباتها ؛ لأن التراث هو جزء من الماضي الذي أصبح بضاعة تنتمي إلى عصر انتهى ، لذا يجب أن يبقى من الماضي ،ولا يشتغل ب هالا المهتمون بشؤون الماضي ؛ أي إنهم يرون أن أي اشتغال بماضي التراث سيتم على حساب الحداثة. وفي مقابل ذلك نسمع أيضاً صوتاً آخر نقيضاً لما سبق ،معادياً لكل وافد من الغرب ، همه الطعن بكل محاولة لإعادة قراءة التراث بأدوات الحداثة والاستفادة مما قدمه العصر من جديد. وإزاء هذين التيارين المتعصبين لابدَّ من أن نشق طريقاً بينهما ينطلق من نبذ التعصب والانغلاق على الذات وبالشكل الذي يحفظ للماضي هيبته وللحديث (المعاصر) قيمته ، فنخطو خطوة تأسيسية ننتقل من خلالها بالعلاقة بين التراث والحداثة من الإشكالية المنضوية تحت الانقطاع والتصادم إلى التلاقي والتأصيل و التلاقح فنسهم في ردم الفجوة وسد الهوة بينهما. إن العودة إلى التراث لهو من الأمور الهامة التي من شأنها أن تلقي على المواضع العديدة ، التي يلتقي فيها هذا التراث مع احدث ما توصل إليه البحث في العصر الحديث. وهذا يوصلنا بلا شك إلى الاستدلال على استمرارية الفكر عبر الزمن والنظر إليه على أنه سلسلة منتظمة متصلة لا انقطاع فيها. فالفكر الإنساني عامة ليس ملكاً لأحد ولا هو حكراً على زمن دون آخر ، والمعرفة مشاعة تتجاوز حدود الزمان وتعبر حدود المكان. وعلى هذا تكون ثنائية الحداثة والتراث مفيدة ونافعة وتكمل بعضها بعضاً،إذا وضعت في سياقها الصحيح ، وذلك أنه لا حداثة بلا تراث والحداثة ستصبح تراثاً في يوم من الأيام . بيد أنه أصبح مقرراً أن الأصالة لا يمكن أن تعني الاكتفاء بأنفسنا والانغلاق على الذات فالأصيل بعد ذلك لا يكون أصيلاً إلاّ إذا كان ذا دلالة في الحاضر فبعض معطيات الماضي توحي لنا وعلى نحو من المقاربة بكل ما هو جديد من معطيات الحاضر. وعلى هذا فإنَّ مبدأ استلهام التراث يتنزل لدى العرب في عصرنا منزلة مُولد التأصيل الفردي الذي بدونه يظل الفكر العربي سجين الأخذ ، محضوراً عليه العطاء فالتراث يمدنا بالمادة الخام الولود التي يمكن من خلال استلهامها أن ننطلق لتشكيل موقف عربي أصيل حيال القضايا الإنسانية الكبرى ومن هنا كان من متطلبات الحداثة تجاوز هذا الفهم التراثي للتراث إلى فهم حداثي ، إلى رؤية عصرية له وبات من المقرر أنّ الحداثة لا تعني الانسلاخ عن التراث وإهدار ما أسسه القدماء ،ولا هو قطيعة مع الماضي ، وإلاَّ لتحولت الحداثة إلى حداثة فوضوية لأنها نشأت من فراغ ، ولم تأخذ بالحسبان ما فعله العرب القدماء ، وما فعلته التراثات العالمية الأخرى . ومن ثم يحتدم الصراع بين أنصار الماضي من جهة وأنصار الحداثة من جهة أخرى ويتحول التلاقي الذي نسعى إلى إليه إلى افتراق ، وهذه خطيئة يساهم في إحداثها الفريقين المتصارعين على حد سواء. ومن هنا باتت الحداثة متجسدة في حداثة الرؤية والمنهج ، قبل كل شيء ، وهي تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه بالمعاصرة ؛ أعني مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي . إنَّ هذا الفهم السديد الذي يحاول أن يقضي على القطيعة الفكرية بين ماضي الأمة وحاضرها؛ كان ولا يزال هدف الأمة في الحفاظ على وجودها فشكلت مسألة العودة إلى التراث ميكانزماً نهضوياً ، عرفته اليقظة العربية الحديثة كما عرفته جميع اليقظات النهضوية المماثلة وهي عودة بناءة يمكن أن يرتكز عليها في نقد الحاضر والماضي القريب منه والملتصق به ، والقفز بالتالي إلى المستقبل . لذا ومن هذا المنطلق الفكري مثلت هذه العودة رد فعل ضد التهديد الخارجي للأمة من اجل الحفاظ على الهوية القومية فاتخذت صورة الدفاع عن الذات . وعليه فإنَّ سد هذه الفجوة التي تحتدم بين التراث والحداثة بين الحين و الأخر ، أصبح واجب المؤسسات والمفكرين و الأجيال ، فالواجب يتطلب أمرين هامين : أولهما: المحافظة على التراث وإبراز نظرياته وتقويمها في ضوء العلم الحديث ومناهجه. ثانيهما: ربط التراث بالفكر المعاصر ، والإفادة من كل ما يظهر من جديد بقدر ما يتناسب مع واقعنا العربي. إنَّ النتيجة المنطقية التي نخرج بها هنا هي القول إنَّ الصراع بين الحداثة والتراث صراع زائف ومظهر من مظاهر التخلف الثقافي ، يرجع إلى دواع وأسباب واهية سطحية تفتقر إلى النظرة الشمولية ، فمن أراد أن يؤسس للفكر الواعي عليه أن ينظر بمنظار التجرد الواعي المنصف القائم على أسس علمية متينة لما أنتجه الفكر الإنساني عامة دون قيود تضع شروخاً وهمية بين الامتداد الفكري القديم والجديد