اتذكر بوضوح ساطع تلك الايام البيضاء المشرقة .. يوم كنت اتعثر بقدمين صغيرتين حافيتين في الأزقة الضيقة لذلك الحي الذي هجرناه منذ زمن لازالت كل التفاصيل مثبتة في مكان قصي بمسامير طويلة تشبه أيام الفراق تلك الشجرة العجوز الثابتة كرعب امام بيت العجوزين … لا تزال معلقة في ذاكرتي كشجرة خوف الخوف من الجنية التي قيل لي بأنها تطعم صغارها تحت الشجرة كل مساء المساء المبتهل بالتعاويذ وأصوات الأذان وكلمات بذيئة يطلقها بعض المعتوهين الحوش الكبير كقارة اكتشفت للتو … .. والغرباء الذي يسكنون الحوش الشمالي بثيابهم الغريبة وذلك البدوي الذي يجلس صامتا كقبر امام خيمته يشرب قهوته المرة وأمامه صقر مهيب مغطى العينين الدكان الصغير .. المليئ بعلب الحلوى والبائع الضخم ذو الوجه المصاب بالجدري وزجاجات الكوكاكولا التي نتخاطفها بحرمان ظاهر وتلك المجنونة التي تطعم مخلوقات البحر طعامنا تلك المرأة السامقة كشجرة والمخيفة كعنقاء تسرق طعام الناس كل ظهيرة وتلقيه وسط اللجة وتعود مبتسمة .. تقهقه كبحار قديم كانت تطعم البحر والحيتان والاسماك والاصداف كما تقول .. وتتركنا نتضور جوعا . اتذكر بقرات جدتي ، وشجرة اللوز في وسط الفناء.. و الدرج الحجري يوم سقطت من اعلاه وصراخ أمي .. صباحات الشتاء الباردة امام موقد الجمر وخبز جدتي الذي أحن اليه.. والحلوى الذي كانت تصنعه امي نهارات الصيف وأور ق الخريف المتساقطة احتفال الطبيعة امام الجميع مواء القطط ونباح الكلاب نسمع صدى تردداته في المساء مختلطا بأذان العشاء يا الله لقد تعبت من ذاكرتي .. من خلاخيلها وثيابها وأقراط النساء وروائح البخور والأطعمة وأسماء الاطفال والأسماك والصيادين والبحر والقواقع والمراكب وشخبطاتنا بالفحم على الجدران والكلمات البذيئة التي كتبناها في وضح النهار دون خوف .. لا شيئ ينقص من ذاكرتي .. وهي لا تضيق بتفاصيلها.. لكنني تعبت ..