يحيى السماوي ، حين يرتدي ثوبَهُ المائي قبل هذه القراءة كتبتُ أكثر من ستين صفحةٍ و لم أستطع أن أوفيّ الشّاعر حقه ، إنّه الشّاعر الذي يستحقّ التّمجيد في مناسبةٍ أو بدونها ، إنّه الشاعر يحيى السّماوي ، له خمسة و عشرين ديوانا حتى الآن ، و آخرها ( ثوب من الماء لجسد من الجمر ) الذي أنشد فيه الكثير من الغزليات التي تليق بالجنس اللطيف وعنصر الخصب منذ سيدوري وعشتار (إفروديت) حتى ليلى و بثينة و نزولا إلى أنثى الريل و حمد ، و نزولا إلى أبسط امرأة تمرّ في شوارع مُدننا العراقية أو مدن هذا العالم الفسيح . نحنُ أسرى حتما حين ندخل الأروقة السماوية بكل ما تحتويه من معمار شعري و هندسة كلمات و شعشعة حروف و لغة تنتمي أساساً إلى أبيها المسمّى مدرّس اللغة العربية في إعدادية السماوة. شاعر يستأهل أن نقول عليه تلك المقولة التي قالها الجواهري ( كلّما حُدثتُ عن نجمٍ بدا حدثتني النفسُ أنْ ذاك أنا!) و عليه نقول من نياط قلوبنا أنّنا فرحون حين تمّ تكريمه بشاعر العمودية في محفلٍ كبير في أستراليا. شاعرُّ دائما ما يحتفى به في المحافل و المناسبات و آخرها في السماوة حيث غنّى لأبطال العراق الميامين و على رأسهم سلام عادل و حسن سريع . إنّه الشاعر الذي أعطى المرأة حقّها مثلما فعلها قبله شاعر العرب نزار قباني ، إنّه الشاعر الذي ارتدى ثوبه المائي ، كي يطفئ ما في شرارتها نتيجة الصبابة الحامية من حبها الذي وصل إلى الذروة ، أو نستطيع القول هو الشاعر الناري الذي يريد أن يطفئ ناره بثوبها المائي ، جدلية مترابطة رائعة يخلقها الشاعر و الفيلسوف في آن واحد . أو إنّه الشاعر الذي ارتدى (رداء زورو) كي يصلح ذات البين ، كي يُحقّق العدالة بسيف بصيرته و كلمته . إنّه الشاعر الحكيم الذي جاء كي يصلح الرتق الذي ينشرخ بين الأصدقاء في ظرفٍ قاسٍ فرضه الزمن الأغبر ، و هذه بالذات يتميّز بها الشّاعر الكبير يحيى ، لما له من حنكة و صبر عاليين سنُبيّنها لاحقا أدناه من هذه الدراسة المستفيضة بحقّ شاعرنا الأكبر يحيى و ما حصل له مع بعض الأصدقاء من سوء فهمٍ يتعلّق بالأدب حصرا . في هذه الدراسة سأُركّز على العلاقة الحميميّة التي تربط الشاعر يحيى بعنصر الخصب ، بآلهة الخصب ، و من ثمّ نتطرق إلى ما هو أحبُّ إلى قلب الشاعر و هو الوطن ثم الجانب الإنساني و الروابط و الأواصر التي تؤسّس إلى صنع علاقة متينة وفائية خالصة بين بني البشر . لنر ما قاله في شذرةٍ رائعة وهي من مئات الشذرات التي قالها بحق هذه الأنثى الرقيقة التي نشتهيها أيّما اشتهاء في حلنا و ترحالنا ، باعتبارها النصف الثاني الذي يُكمّل دورتنا في الحبّ، لنقرأ ما قاله بحقّها : أنتِ لستِ شمساً … وأنا لستُ وردةَ عبّاد الشمس … فلماذا لا يتجهُ قلبي إلآ نحوكِ وهل يُمكن لنا أن نُدير حركة اتجاه بندول الساعة أو التحكم في نبضاتها ، إنّها الحركة الآلية التي يتبعها الرجل اتجاه آلهة الخصب , مثل تلك الحركة لأعضاء الإخصاب لكلا الطرفين في بدايات الخلق حينما تمّ تعشيقهما لأول مرّة دون إدراك الطرفين ، و كيف تمّ إدراك التقبيل , أو التمسيد باليدين ، أو لثم نهديها الطريين ، و كيف تمّ الولوج في بوابة أفخاذها ، من علّم من ؟ . أسئلة لا نستطيع الإجابة عليها من عقولنا ، غير أنّنا ندرك ذلك في الخدر الذي يصيبنا كلما اقتربنا من أذيال ثيابهن المعطرة أو غير المعطرة . أسئلة طرحها الفلم الإيطالي الشهير للممثلة التي دوختنا في ذلك الزمن الرومانسي ( صوفيا لورين ) والممثل الوسيم مارشيللو ماستروياني و فلمهما الرائع ( زهرة عباد الشمس) , و الذي يتكلم عن مصائرنا و كيف ندير رؤوسنا مثلما تريد تلك المصائر، فلمُّ يحكي عن حبيبين في الحرب العالمية الثانية و كيف افترقا و ما بمستطاعهم أن يكونوا غير زهرة عباد التي تعشق الشمس ، لكن النثر هنا يختلف ، إذ لم يصيّر الشاعر يحيى نفسه كزهرة عباد و لا هي كالشمس ، فبمستطاعه أن يكون مثل ( فلورنتينو أريثا) الذي بلغ السبعين و لم يعشق غير ( فرمينيا داثا) في رائعة ماركيز (الحب في زمن الكوليرا) , لم ينبض قلبه بسواها و لم يشف حتى ذاق عسيلتها في لُجّة البحر و في الباخرة المبحرة بهما لوحدهما ، و هما في عمر الشيخوخة ، ثمّ قال مرددا مع نفسه ( اليوم قد شفيت) . الشاعر يحيى ينقلنا إلى متاهات شهريار و كيف كانت الملوك تستطيب معها كشهرزاد ، منذ ذلك الوقت السحيق ، و النساء هي الشغل الشاغل ، هي صانعة الرواية و الحكاية التي إذا ما بدأت لا تنتهي ، حتى نعاسنا و نومنا مرغمين متعبين ، لنستأنس أدناه بما قاله الشاعر يحيى الشهريار : لو لم تكوني شهرزادي أكنتُ سأعرف أني شهريارك؟ تمدّدي على عرشِ سريرك لأقصّ عليك باللثم حكاياتِ ألفِ قبلةٍ وقبلة والتفاحةِ الحلال التي أعادتني الى الجنة و ماذا يقصّ عليها بعدُ أكثر من ذلك ، لقد صيّر اللثم كلام ، و ربي هنا تكمنُ عبقرية الشاعر ، العبقرية معرفة فطرية لا يلجأ فيها العبقري إلى استخدام القواعد المشاعة ، لأنّها عكّاز يحتاج إليها الأعرج بالضرورة و هي عائق للسليم الجسم ، وقد ألقى بها هوميروس بعيدا . ماذا يقول لها حين تنام على الحرير ، مسترخية تماما في خدرها ، مشمّرة ساعدها الأيمن فوق حافة السرير الفردوسي الأبيض ، مائلة برقبتها بحياء تامّ و كأنها تريد أن تقول له ، كفاك يا شهريار من كلّ هذا التنويم المغناطيسي فأنا نمتُ مع الخدر الكلماتي الذي أسمعه منك . ( صحيحُّ من قال… أنّ المرأة تعشق بأذنها) ، ها هي تستمع إلى كل هذا الشّجن الشعري المسطّر و المضاف مع اللثم ، إنه يزفّ لها كلماته اللثمية و كأنه فراشة ملونة تريد أن تقضم بزغاب جلدها الناعم فنراها مُدغدغة تماما و لا يسعها سوى أن تقول يا شهرياري تصبح على ألف خير . يبقى الشاعر يحيى مشتتا لا يمكن له الاستقرار حتى يستنجد بشهدها ، فيجعله حبرا لا ينتهي في مداده ، أو حتى يستطيب عصفوره في عشها الدافئ والرطيب ، لنر ّ هذه الروائع في السطور التالية من ( رذاذ) : رذاذ ……. وحدُهُ مِدادُ محبرتِك يُغوي غزالَ قلمي بالركضِ في مراعي السطور * رجولتي أعلنتِ الإمساكَ عن المائدة حتى تفطرَ بخبز أنوثتك ! لا تخافي حرائقي … نيراني ناعمةٌ كندى زهرةِ اللوز ودخاني بخور ! * وحدُها حمامةُ أنوثتِك القادرةُ على تدجين صقر فحولتي ! * نخلتُكِ رسالتي وما من معجِزةٍ لي غيرُ جنوني … سأتسلّقها قُبلةً قُبلة ! * بكِ صرتُ شعباً من العشاق في مملكتي الممتدةِ من عصفوري حتى عُشِّك ! الحياة على خافقها لا يمكن أن تستمر بدونها ، إنّها الرذاذ المتطاير من رضابها على عطشي كي لا تذبل شفاهي ، إنّها النار التي أحيا بها ، بل هي النار الوحيدة التي تكون بردا وسلاما على نبوءتي ، كي أكون رغيفا يحيا به كل من سار على طريق امرؤ القيس . منذ طقوس معبد إيزيس هناك فوق و هناك تحت و لكن الحداثة جعلت تبادل الأدوار بين الفوقية و التحتيه ، فأنا أهطل بفحولتي على كلّ رياض واديها كي تخصب . منذ أن تعوّد آدم أن يزرع المتسلقات فلابدّ له أن يناطح قلب النخيل بالتسلق ، أن يكون كناري الحبّ الذي يمضي باللحن مع كلّ نشوةٍ تسري في العروق أثناء التقبيل من مفرق الرأس حتى القدمين ، مع كلّ تأوهٍ وعرقٍ يتصبّب أثناء أداء المهمة الروحية التي ليس لها بداية أو نهاية ، تلك التي يتطلّب لها أن يدخل عصفورنا إلى عشها الرطيب كي تتمّ أجمل طقوس الحبّ التي تشهد التّنهيد و الحب العميق ، و هكذا نبني آمالنا تمهيدا للقاءٍ آخرٍ يجمعنا في الخفاء كي ندرك مدى السعادة التي سرعان ما تطير من جوانحنا على أملٍ أن تعود في المرة القادمة ، مثلما كان يفعلها تولستوي مع حبيبة عمره التي أنجبت له ثلاثة عشرة من الصبية و البنات ، حيث كانا في كلّ مرةٍ يلعبان لعبة الحبّ الخرافي ، لعبة القوقأة و دوران الديك ، ّ المملكة التولستوية الممتدة من حمائم آنا كارنينا حتى السلام الذي عشعش فوق قبره لغاية اليوم . تبقى المرأة بنظر الشاعر هي الجسد الجمر الثوب المائي الذي يطفئ تلك النار أو بالعكس ، حيث سطّر لنا الشاعر أجمل الألحان في آخرِ ديوانٍ له ( ثوب من الماء لجسدٍ من الجمر ) ، إذ نستشفّ من خلاله ، من أنّه منذ الأزل هناك متلازمتين ، نهدُّ لوزي و فمُّ يُلثمان ، فبشفاه طفولتي أمتصّ ، و بفمّ صباي أصرخ و أخطّ على السطور بما لا ينضب ، مثلما قال الشاعر أدناه بصدد ذلك في نصّ (غواية ص65) من ديوانه الموسوم أعلاه : ياملاكي اسمحي لي لحظةً واحدةَ أصبحُ شيطاناً لأحتالَ على ثغركِ في نصبِ شراكي فإزعلي منّي لأسترضيكِ باللثم وأستجديكِ كأساً من زفيرٍ و شميماً من شذاكِ الشاعر يحيى من النوع الذي يكنّ إحتراما عظيما للحبّ ، الحبّ المرادف في ما نعنيه للمرأة ، هي في صباحاته ، و لياليه ، هي المرسى ، هي الميلاد الجديد ،هي الملاك الذي تغنّى به المطرب الراحل ناظم الغزالي حين يصدح بصوته الرنان ( أي شئٍ بالعيد أهدي إليكِ يا ملاكي) ، فما أروع شاعرنا يحيى في بدايته الغنائية الرائعة في هذا النصّ الواضح غنجا و دلالا و ترافة لا يمكن أن توصف . لنبحر ما في ديوانه أعلاه من نص ( قاب فردوس لا أدنى) بما يتفّق و كلامنا هذا : مادامَ زورقُ مقلتي في نهركِ الضوئي يرسو فالصبحُ والليلُ عرسُ المرأة بالنسبة للشاعر يحيى تعني الكثير و الكثير ، سواء في الصّبابة و الوجد ، أم في إنسانيتها و أمومتها ، بمستطاعه أن يجنّد نفسه لها لو أراد أن يُكرّس الروح البوحيّة لها و لها فقط على غرار نزار قباني فإنّه آهلُّ لها ، لكنه لديه المشروع الأكبر و هو حبّ الوطن الذي يعلى و لا يُعلى عليه . و مهما توقّف عنها في لحظة من الزمن ، يستدير استدارة كاملة لها ، لما فيها من العنصر الرئيسي لقلبهِ الشاعر ، لأنها مركز الاستقطاب المدادي في البوح كما يُبيّن لنا في هذه الفلقة الساحرة أدناه من نفس الديوان : إن يكن عقدكِ والأقراطُ والمنديلُ مني فأن دفء سريري ومدادي ورحيقُ اللذة البيضاءِ منكِ العلاقة بين المرأة و الرجل على مرّ التأريخ هي علاقة أواصرية إنجابية لا يمكن لها الفكاك على الإطلاق ، و دائما هناك من يهبُ الهدايا و العطايا و هناك من يأخذ ، الرجل يعطي و يهبُ و هي التي تستأنس بهذه الهدايا و تحتفظ بها على مر التأريخ باعتبارها وسام حبٍّ بينها و بين الحبيب الفارس ، حتى لو كانت المرأة ملكة و الرجل ملك ، تبقى المعادلة هي ذاتها ، الملك يعطي وهي الملكة التي تفرح بعطاياه . عقدها و أساورها و خواتمها الفضية و الذهبية و كلّ ما يُعلّقُ في الأعناق من لؤلؤٍ و مرجان هي منه ، لكن بوحه و حرارة السرير الحريري يستمدّه منها و ينعم به بينها و في خضم أحضانها . هي هذه المعادلة التي لم تتغيّر أبدا ، هي الراسخة في سماء الوجود و الأرض أينما حلّ الشاعر ، لنقرأ ما يقوله في هذه الشّذرات : أنا وطن أنت عاصمته ! …… سأقشرك مثل برتقالة لأحصي مسامات جسدك بالقبلات …….. حين قبلت عينيك جاءتني الفراشات تستجدي مني بقايا الكحل العالق بشفتي ! يمكن للمرء أيضا أن يجيب الشاعر فيقول ، أنا بيت و أنت غرفتي ، سأقطفك مثل تفاحة البساتين التي تكون لي وحدي , وحدي أنا من يلمسك ، و حين أقبّل شفتيك ، تجيئني النحلة تبحثُ عن بقايا الشهد العسلي . يعطينا الشاعر يحيى الكثير من شواهده على احترامه للمرأة و حبه و هيامه بها ، إنه المدافع عنها في أحلك الظروف ، إنه يحبها على غرار الشاعر نزار قباني حين يقول (لم أحبكِ كشخص فقط ، بل أحببتكِ كوطن لا أريد الانتماء لغيره ) ، لا كما نسمع عنه في بعض البلدان التي تحتقر المرأة و تجعلها في المستويات المتدنية ، حيث نقرأ في كتاب مملكة غرف النوم لمحمد الباز والذي يتطرق إلى الانحراف الجنسي و الديني في بلاد العرب و بالأخص في السعودية ، و ما هي نظرتهم للمرأة فيقول : (طريق المرأة إلى الجنة وأنهارها وعسلها و فاكهتها الدانية ، يمرّ بالسرير و ينتهي بالسرير) . (المرأة خطيئة تمشي على قدمين في السعودية .. من كتاب مملكة غرف النوم لمحمد الباز). و هناك الروائية السعودية الرائعة وردة عبد الملك التي تنقل لنا عن الأساليب التي يتم من خلالها استغلال المرأة و تخويفها كي تظلّ مطيعة في كلّ أوقاتها حتى لو كان الأمر على حسابها و مستقبل حياتها ، حيث تتطرّق الروائية إلى (سارة ) بطلة روايتها و في جانب من الحوارات حيث سارة تزهق من حياتها و زوجها الذي لا يحترمها ، فتأتيها أحدهنّ فتقول لها احترام الرجل بكل أفعاله السيئة هو الطريق إلى الجنة ،( فمن يحتمل النار يا سارة ) .. و بهذا تذعن سارة لهذه الأقاويل التي تُشكّل لها رعبا رهيبا لا يُطاق . أين نحن من ذاك فيما لو قرأنا للشاعر يحيى السماوي و مدى تبجيله للحبّ و للمرأة ، حتى يصف لنا صبره و احتماله للملمات بهذا الصّدد فيقول : يا مُبْطِلاً حتى وُضُوئي: كُنْ لِحَصْدي موسِما فأعادَ وضعَ نِقابهِ كيداً… وقالَ مُتمْتِما: صبراً على عطشِ الهوى إنْ كنتَ حقاً مُغرَما فالماءُ أعذبُ ما يكونُ: إذا استبَدَّ بكَ الظما! أنا أتذكر في أيام القادسية المغبرة ، كنا في أحلك ظروفها لا نرى غير أنفسنا و الآخرين من العساكر الذين لا يتغيرون على مرّ سنوات طويلة، أشهر نقضيها بدون رؤيا أيّ عباءة أنثى كي نشمّ عطرها ، أشهر و نحن مع التكثيف الجنسي بأمتياز ، أحيانا مشاهد النوم تحت البطانيات تثير السخرية. جنود نائمون و ما هم بنائمين .. بل تتحرّك أيديهم و هي تقبض على ذلك اللايكل المسكين الذي لم ير غير مقابض الأيدي المتسخة من رمال الصحراء و الثكنات ، في خضم كلّ هذه المأساوية المعتمة .. كان لي صديق مهندس من الحلة كنا نسميه (حسن بلميطة) ..تسمية جنسية خالصة تتعلّق بخيارته . كان يقول من شدة ظمأه إلى زوجته ..حين يحصل على مكرمة الإجازة ، يقول أطرق الباب وأنا فاتحُّ أزرار بنطلوني الخاكي ، تظهر زوجتي ، أقبلها و تقبلني ، ومن الباب إلى خدرها ، حيث يتم ارواء عطشي ، هكذا هو صبر العراقي ، و هكذا هو الإرواء ولكن أيّ صبر ، إنه الجنون أو الخبل الذي يختلف عن الآخرين ، (عراقي هواه و ميزة فينا الهوى خبلُ/ يدب العشق فينا في المهود/ و تبدأُ الرسلُ) و رغم ذلك ، قالوا … إنّ بحور الصبر بعيدة المنال . يحيى السماوي لا يمكن أن يبعده شيء عن الوطن سوى الحبيبة أو الأمّ أو البنت أو الأخت ، إنّهنّ الحبّ و الغزل الصادح في أوراقه ، كما بيّنا أعلاه ، إنّهن المنار و الفنار في حياة الشاعر ، إنهنّ الطريق المؤدي إلى أروقة الوطن العزيز عبير قلب الشاعر مهما ارتحل ، إنّهن المستوطنات هناك في وطنه الأم ، إنّهن الفكرة التي لا يمكن لها أن تُزال من رأسه مهما تلقّى من عقاب أو مضايقة أو مداهمة من قبل أجهزة الأمن أو البوليس السرّي ، لنشهد على شاعرنا و ما يقوله بصدد ذلك : سعادة الرَّقيب : أنت تمتلكُ المقصَّ القادرَ على قصِّ الورقةِ من كتابي … ولكن : من أين لك بالمقصِّ القادر على قصِّ الفكرة من رأسي ؟ حين يمطر شاعرنا مطرا كونيا ، يمتد إلى خرائط العالم ، إلى السماء التي تلفّ تحتها هذه الأرض المترامية ، يمطر علينا فسلفة ما أوتي بها إلا ّالقلائل و الذين نالوا من الشهرة جعلتهم حتى اليوم منارا و نبراسا يهتدي بها البشر على مرّ الأزمنة. الشاعر يحيى يقترب هنا مع ما قاله الشهير العظيم الشاعر التشيكي ( فرانس كافكا) في مقولته ( لا أحد يحمل فكرتك في رأسك سواك أنت ) ، و هناك نصب تذكاري رأيته في براغ يُجسّد هذه المقولة الرائعة ، حيث يزوره الملايين من السّواح كلّ عام ، حيث نرى في النصب كيف أن الرأس فارغُّ ، و يحملُ شخصا بأكمله . هذه المقولة التي كتبها الشاعر فرانس كافكا هي عبارة عن سطرٍ جعلت منه شاعرا مخلدا في سماء العبقرية و العظمة . و ها إنّي أرى ما قاله الشاعر يحيى بهذه الكلمات القصيرة الكثيفة التي لو انفجرت لتناثرت في الأصقاع حبّا و ثورية و حماسا و تفكيرا ينشطر إلى ما لا نهاية ، كلمات مضغوطة تحمل الكثير من المعاني السامية التي يجب أن تُؤطّر في أرشيفنا العربي و العراقي . كل ما يكتبه الشاعر هو بمثابة إسفين يُدقّ في أرض هذا الوطن الجريح ، لنقرأ ما قاله الشاعر في شذرته الرائعة (مسمار) : على ماذا يتقاتلُ الأباطرةُ الصغار ؟ حيتانُ المُحتلِّ لم تتركْ من سمكةِ الوطن إلآ الزعانف … وديناصوراته لم تترك من الحقل إلآ التِّبن ! هي حرب بين عجوزين أصلعين من أجل مشط , أما المحتل فهو كحال البرجوازي القذر في تلك الأيام إذا ما كان له جارا فقيرا , يأكل السمكة جميعها ثم يدق الباب على جاره المسكين لاعتبارات ( عليكم بسابع جار ) أو الجار ثم الجار ثم الجار ، فيعطيه عظام السمكة للمصمصة ، و هذا المسكين ليس لديه سوى أن يقول ( حمدا لله) ، و هذه الأساليب إنسانية في قشورها لكنها تساهم في إذلال الإنسان أيّما إذلال ، و لذلك حينما وصلنا إلى بلدان التحضر وجدنا أنفسنا نعيش على المساعدات التي نأخذها من بنك الحائط ، و هذه في حدّ ذاتها وجدوها لحفظ كرامة الإنسان . أمّا الديناصورات يحتاج لهم ضباطا أحرار مثلما فعلها عبد الناصر ( و هذه تحتسب له من الأعمال المجيدة) الضباط الأحرار قاموا بتقنين ممتلكات كل الأثرياء و إتباعها إلى الدولة , و مثلما حصل في روسيا وحسب ما قرأناه في الرواية الخالدة ( الدون الهادئ لشولوخوف) و كيف كان يتصرف البلشفيون في مصادرة ما يعطيه البيدر و توزيعه عادلاً بين الإقطاعي و الفلاح. لا بدّ و أن يأتي هذا اليوم . مازال الشاعر يحيى رمزنا العالي بروحه الطيبة الوفية الصادقة ، المسامحة، المجاملة ، الصداحة ، الرقيقة ، المقدامة ، المصالحة ، البعيدة عن التوتر ، البعيدة عن المناكفة ، البعيدة عن الشجار ، إنه المسالم ، إنه المناضل ، الرونق و الأنيق ، ما أحلاه في منفاه ، ما أجمله و هو يقرأ لسلام عادل و حسن سريع في السماوة ، ما أروعه حين ينشر الروح المصداقية الخالدة فيما بين الأحبة ، ها هو يكتب نصا إعتذاريا إلى أصدقائه عقب حصول سوء فهم في مجريات الأدب والشعر و ما يتعلّق بحرية الرأي ، و الإفصاح الذي يختلف من شاعرٍ إلى آخر حول بعض الشخصيات العراقية التي صنفها البعض بكونها مجرمة بينما صنفها البعض الآخر غير ذلك ، لنقرأ بتمعن ما قاله الشاعر ذو القلب الفسيح بهذا المنظور العميق : ( إعتذار متأخّر ) " إلى الصديق الشاعر هاتف بشبوش : درءاً لشهقة دخان ، و إلى الصديق الشاعر الفنان ماجد مطرود لتقصيري غير المتعمد في تأخري عن تهنئته بنجاح العملية الجراحية في الفقرات سائلا الله أن ينسج له بيد لطفه ثوب عافية لا يبلى ، و إلى كلّ صديق قد أقصّر معه يوما بحسن نية ! ثقيلةُّ حقيبتي .. لا قدرة ُّ لظهري على حملها عساني أخففُ من ثقلها باعتذاري .. *** أعتذرُ : للشهداء الذين لم أشارك في تشييعهم … // للجهاد من أدعيائه … // للمرضى الذين لم أدعُ لهم بالشفاء… // للبستان الذي سرقتُ من نخلتهِ رطباً ولم أكن جائعاً // للرصيف الذي اتسخ بأعقاب سجائري … // لأيدي الجلادين التي تَورَّمَتْ من صفعي … // للغد من مشاركتي بانتخاب القادة الإماء والساسة اللصوص … // للعاشقِ الذي استهنتُ بدموعه … // وأعتذر أيضا : لحقيبة عمري التي أثقلتها بحماقات الأمس ! يردّ الشاعر (هاتف بشبوش) كاتب هذا المقال فيقول : في روايات أفلام الويسترن ( الكاوبوي الأمريكي) ، أغلب الأحيان نرى الروائي يميل أن يكون البطل في غاية النبل ، في رواية جميلة كتبها صديق الشاعر الأمريكي الشهير ( والت وايتمان ) يحضرني اسمه الآن ، هذه الرواية مثلت الى فيلم في غاية الإثارة أيام كنا صغار ونلهو بالمسدسات التي نصنعها من عظام فك الشاة ، و حينما نرمي مثلما وصفها الروائي ( زيد الشهيد ) نطلق صوت من أفواهنا ( كيو ، كيو ، كيو ) ,هذا الفيلم مثلهُ عمالقة السينما آنذاك ( كيرك دوغلاص الذي اشتهر برائعة سبارتكوس ، و أنتوني كوين الذي اشتهر برائعة زوربا اليوناني) ، الاثنان أصدقاء بل تربطهم الحميمية المطلقة التي لا يشوبها شائبة ، أجبرتهم الظروف على أن يتبارزا وجها لوجه , أحدهم شهير برميته السديدة في الجبهة والآخر شهير برميته السديدة في القلب وكلا الطرفين رميتهما واحدة لا تثنى فتلقي الطرف الآخر صريعا لا محال ( مثل قوس إبن الكُسعي) ، وكنت أتذكر أنني دخلت الفيلم أكثر من مرة لكي أرى ذلك المشهد البطولي والتضحية التي لا توصف في سبيل الصداقة و الأخوة ، يخرج الاثنان صباحا في الوقت المحدد و المكان المحدد وبقية الناس تنظر إليهما من خلف نوافذ بيوتهم ، ربما هي العادات آنذاك تساق هكذا ( و لهذا نحن في الصغر إذا ما أردنا أن نتشاجر مع أحد نقول له ، إذا أنت شجاع انتظرني خلف سكة القطار ) . المهم خرج البطلان و تقابلا وجها لوجه ، و بعد النظر بين الطرفين و التحديق لكليهما ، و الإصرار في المضي قدما للقتل و قلوبنا تخفق نحن المشاهدين إلى هكذا مشهدٍ مثيرٍ آنذاك ، و على حين غفلةٍ ينطلق الرصاص من كليهما ، وقع الاثنان فتصورنا أنهما ماتا و ينتهي الفلم ، لكن تبيّن أن أحدهما حشى مسدسه بطلقٍ خلّب كي يعطي الفرصة لصديقه أن يقتله ، و الآخر تعمد في رميته إلى ما فوق جبهة صديقه بكثير ، و هكذا بقي البطلان على نبضيهما. رواية تصف لنا التضحية في اللحظات الحرجة و المواقف النبيلة التي يسجلها التأريخ في سبيل إعلاء كلمة السلام و المحبة بين الأخوة . بينما في روائع الإلياذة و الأوديسة هي كثيرة مثل هكذا تضحيات ، و منها رواية( المجالد) التي تكلم عنها المبدع الناقد ( حسين سرمك ) ، مبارزة تتم بين سجين بطلٍ و ملكٍ من ملوك الإمبراطورية الرومانية ، الملك يطعن السجين بخنجرٍ و هو في السجن قبل المبارزة بساعة كي يظهر ضعيفا أمام الناس المحتشدين فيستطيع التغلب عليه ، و تبدأ المبارزة و تنتهي بفوز البطل السجين و موت الملك دون أن تعرف الحشود بفعلة الملك الجبانة . أو المثال الأقرب لنا هو الكونت مونت كريستو وصديقه الذي غدر به ( مونديغو) من أجل قلب الجميلة مرسيدس . أو بوشكين حين مات مبارزا من أجل حبيبته ، ثم يستمر الشاعر(هاتف بشبوش) مخاطبا يحيى السماوي صديقه الأعز ورمزه الأكبر في سماء الأخلاق والشعر والنضال فيقول: ياصديقي لا أنا و لا أنت تستطيعُ زهورُ عبّادنا أنْ تستديرَ نحو الظلام أنها مجبولةُّ من الشمس لا أنا و لا أنت من ملوكِ الإلياذة و الأوديسة بل كلانا هو السجينُ المطعونُ بخنجرِ الخونة لا أنا و لا أنت من يتصارعُ من أجلِ حسناءْ بل أنا وأنت نتبادلُ الأدوارَ بين دوغلاص وأنتوني بل أنا وأنت بوشكين الذي ماتَ حباَ وفداء ماقلناه أعلاه يستدرجنا إلى موضوعة في غاية الأهمية ، هو أنّ الشاعر يحيى تنطبق عليه مقولة أنطون تشيخوف( كلما زاد نقاء المرء ، زادت تعاسته) ، و لكثرة تجاربه في الحياة جعلته يقول في إحدى محاوراته التي رواها لي ، أنّ له قلب حمار ( حاشاه طبعا) لكثرة تحمله للمرض الذي رافقه كثيراً في مسيرة حياته الحافلة بالعطاء ، و أحيانا يكون جليس الفراش دون أن يعطي خبرا لأصدقائه كي يكونوا عُودهُ ، لكي يبقَ مع الأنين وحده ، و حتى لا يتألّم أصدقاؤه معه أثناء المواساة . إنّه الشاعر الذي أصبح صديقا إلى اللّوعات و الشطحات التي تأتي من هنا و هناك ، أو تأتي من أناس غدروا به دون أن يُفكّر يوما أنّه سيلقى منهم كل هذا الغدر و الخيانة ، إنّهم كانوا أصدقاء حميمين ، و لكن سبق السيف العذل ، و لذلك الشاعر أوصى لنفسه أن تكون حذرة و لو بعض الشيء ، فالحذر هو من صفات الشجاع ، و لذلك بيّن لنا الشاعر يحيى بخصوص ذلك في ديوانه الأخير ( ثوب من الماء، لجسدٍ من الجمر ) في هذه الشّذرة الرائعة : بعضُ الخرافِ أشرّ من بعض الضباع فليس عجبا أنّ عصفوراً يخبئ تحت برقعِ ريشهِ ظفراً وناب لا غبار على الشاعر حين أطلق الحذر ، فهو التلميذ و هو المعلم ، و هو ( الذي لم يعد في قلبه مكان لرصاصة جديدة ….محمود درويش) . فلا يسعني في نهاية دراستي هذه أن أقول طوبى لروحك التي ارتدت ثوبها المائي كي تطفئ ما في النفوس من لظى أشرارها ، ثم راحت تُفتّش عن كونفوسيوش العظيم وهو يقول ( لا زلتُ لا أفهمُ شيئا من الحياة).