قصّة قصيرة :عبد الباقي الزعراوي وكلنا كنا نتمنى أن نكبر ونكبر كما الاخرين .. وكفانا صغرا وكأن الامر بايدينا .. كبرت حتى عاد عمري خمس سنوات وأدركت ساعتها ما معنى ان تكون يتيما في هذه الحياة وما قد يتركه لك الماضي وها انت تسرد أوجاعها الان .. عفوا ان القول الفصيح حامل المعنى ليس بالضرورة أن يخاطبك به الفيلسوف بل هو ترجمان القلب و معاناته الصادقة .. , لقد كان "حفة" فيلسوف زمانه لكنه لم ولن يكون فيلسوفا . قال "حفة" : يا شفتلي يا شفتلها يا ضحكة يا بكيت .......طلقتي الرب جيبي الرب .... قالها من قاع ما يحمله أبي من وجع الم به وقالها مهددا وهو يعني ما يقال في هكذا مرحلة ... لم يطل الأمر حتى أتت جدتي بزوجة لحفة حتى تسكته وقد كانت تظنه قد لبى وصاياها وهي الام والمفكرة وهي عيشة بنت يونس تلك المرأة الشديدة وما ادراك .. لم أستوعب الموقف بادئ الأمر .. فلصغري سني لم أع عمق الشرخ الذي حدث في عائلة و كون وعي و سطر كل فصول حياتي و شخصيتي لاحقا . تزوج ابي ولبى حاجة نفسه وحاجة امه ولو انه مكره في ما قام فأنا اعلم وأعرف ما كان يحمله أبي من حب لامي .لكن .. وما لبثنا حتى كنت مع جدتي خارج الدار مطرودين لا مأوى لنا الا ان وهبنا الله دار ابن عمي الناصر سيؤمنا وسيخلصنا مما نحن فيه ..وانتقلنا بدون متاع لأننا لا نملك متاعا من اصله الى القليل ..... اتخذت جدتي ركن السقيفة الاولى مكانا تطبخ لنا فيه ماقد تقدر عليه في سنها وما في جيبها إن توفر ذالك .. وكنت انا وهي في الغالب لا نطهوا فقد يتكرم علينا الخيرون بما يتيسر وخاصة يوم الجمعة وليلتها فعشاء "الموتى" كما كان يسمى كان من نصيب الأرامل وأحفادهم ....وعندها كنا نأكل العيش باللحم والطبيخة وعلى قلته كانت بنت يونس تجفف القليل منه في الشمس كزاد لنا لاحقا وتحرسه من الحمائم ولكنها تترك طائر البوحبيبي يفعل ما يشاء فلا تنهره أبدا بل توصيني أن لا اعبث معه فهو طير له قداسة في بلاد الجريد. وها هي الهملة تفتح لك أبوابها لتضمك ولمن سبقوك من أبناء الهججل.. أولست انا بن الهجالة أولست انا اليتيم رغم حياة والدي ! وان جمال المكان وحده يناديك ويرغمك على الهملة والتمتع بذالك المنظر الخرافي . تتعرج أزقة الشرائطة كبدن عجوز في السبعين لكثرة انحنائاتها وتعطل طريقة مشيها, عندها كذالك كان شارعنا بانحنائته وكثرة دوراته وعدم التوازن لسطحه الترابي وتلك "الساقية" التي تتوسطه وكأنها عموده الفقري. ... كان شارعنا كنفق يحملك من سوق البياضة الى الواد و"كيفان" الطين مباشرة فما إن تكمل آخر انحنائته حتى تجد نفسك أمام منظر مهيب من نخيل شامخ متصاعد من حفرة طويلة عريضة وعميقة وكأنها فوهة بركان غير ان حممها كانت ربيعا أخضرا دائم الخضرة زاهية المنظر بديعة التصميم راوية لعطش كافة البلدة . نعم كان كاف الطين مهد نفطة الاصلي بطينه ومقطع رمله الصغير وجبل "الطنشة "فيه ... وهذا الواد العظيم المنطلق بالحياة يغذيها كشريان يحمل الدم من القلب الى آخر البدن .. على يمينك وأمامك مباشرة تناديك "الزاوية" وكحارس لنفطة وضع سيدي "حمد" زاويته هنالك على أعلى قمة تسمح له بمراقبة المكان من بداية الشرق الى اخر الغرب فلا تفوته أية رؤية ..... الى أن يسلم المشعل الى سيدي "حسن عياد" حارس شط الجريد او حفر الملح . وان أعطيت الفرصة لنفسك وسلكت طريقك نحو البساط والتففت بنفسك وفي كل الاتجاهات فسوف تتفاجأ بجمال وروعة المكان وتشعر بأنك الفاطق الناطق المالك المسيطر الحاكم في كل ما يدور من حولك لكن انت وحدك الذي كنت تدور. وها هي هملتي في الكيفان وفي الوديان تنطلق فلا قيلولة ولا حسيب ولا رقيب حتى موعد صلاة الظهر .وهو موعد الحساب وتسديد فاتورة الفسحة او بالاحرى الهملة .. . .هاهو الحضّار ينادي لصلاة الظهر .ولهذا علينا ان نسرع حتى لا يكتشف الأهل هملتنا وتسكعنا المحرم نوعا ما ..فانطلقنا نجري مع المسار المعهود .الى ان وصلنا ..وها إننا الان في الطريق المختصر حتى نتجنب العقاب والعتاب . نتتبع تعرجات **كاف الطين ** الى أن نصل رحبة النيجاجرة ومنها ندخل الى زقاق دار النجار حيث يلفضنا الى دار *ممي * ومنه الى دار صويلح حتى نصل الى رحبة اولاد بو عزيز ... وفجأة لمحنا ذالك العجوز الطيب, انه عمي الناصر بن يونس . يخرج الى الصلاة ملبيا نداء الحظار وهاهو صوت جدتي ينادي: عبد الباقي ........عبد الباقي ......... فيرتعش جسمي رعشته الثانية وأدرك ان الطريحة وأسبابها قد تهيأت ولا مفر منها... كم كانت حلوة تلك الذكريات ومنها ما حفر في البدن كوشم لن يبارحني ابدا . أتذكر اول لقاء لي بامي بعد مرور اربعة سنوات .ليلتها حلمت كما يحلم كل طفل ..حلمت بحضن أمي وكم انا في حاجة لحنان امي ورؤية أمي ..قررت ومن دون مشورة جدتي الانطلاق الى ضفة البلدة أين يقع حوش امي .و ذاك ما حصل . كان يوما عسيرا كحكاية مرعبة تنتهي ببكاء وخوف هكذا كان يومي .. فحين وصلت واحتضنت جسم امي الدااافئ وعينايا مغمظتان سارحتان وقلبي يكاد ينفجر لخفقانه ولوحشته ولالتقائه بذالك الحنان .. كان يوما بالفعل عليا الاحتفاظ به في الذاكرة . فقد نسيت ساعتها الألم الذي سيصيبني من عند ابي ومن جدتي لما فعلته واقترفته بتجرّئي على مغادرة الشرائطة للبحث عن منزل امي ... طريق طويل طويل ,كذالك الواد الذي يتعرج فعلقمة والشرائطة بينهما بحور ودهور كما تقول جدتي ... اتخذت من مدرستى مركز انطلاق واجتررت ما اكلته عجلاة الحافلة من اسفلت سميته الزرع الاسود وكان دليلي في طريق الوصول الى حيث توجد أمي التي ولدتني ورمتني لجدة بالفعل هي أم ونصف ..ما ان وصلت الى سوق الربع حتى ادركت اني اشتم تلك الرائحة .. كانت لامي رائحة كل الامهات .. ولكني ما شبعت بها يوما كأترابي ... كان ينقصني الحنان وكان ينقصني كل ما قد يجعل منك انسانا كان ينقصني حظنك يا امي.. وما ان وصلت الى برطال دار عليو حتى تهت في أمري وخفت ان أكون مخطئ في الطريق ..هو بالفعل لم يكن برطالا بل كان مجموعة من الاقواص خلتها اول الأمر انه مسجد او انه منزل بحد ذاته منزل لأحد الملاكين الكبار . إذ وانت في بهوه أو وسطه تجد نفسك امام بابين في شكل قوسين وباب ثالث . في الوسط كان هنالك ثلاثة اقواس كدعامات للمساحة المغطات ولكن في مجمل المساحة لا تجد الا منزلين او ثلاثة , دار عليو ومنزلان أخران لا اعلم بالضبط لمن يعودان وذلك المسجد الصغير .... تهت في البرطال الفسيح لصغري ولعدم معرفتي وتعدد الأبواب الى ان جائني صوت يناديني ويستفسرني عن ماذا ابحث .. قالت .. علاش اتفتش يا اصبي .؟ نفتش اعلى حوش أُما...............وين هو حوش أما ..؟ منهي أمك انت ؟ أمّا ..أمّا ..تركية ..انا ولدها عبد الباقي .ولد من قتلي انت ؟ تدخلت امراة أخرى وقالت ها انت ولد تركية مرت التابعي ..؟ انفرجت أسارير وجهي انا هو عبد الباقي ولدها قوليلي وين حوشها راني غديت وانحب انشوفها . الى امي اخذتني استقبلتني سقيفة امي قبل امي واستقبلتني رائحة امي قبل امي وما بارحتني رائحة امي..حتى بعد ان ماتت بعد زمن رحم الله . وتمنيت أن اكون نزيلا في بيت امي دوما , تمنيت ان يراني الصباح وانا في حضن امي ولكن ... ما ان دخل ذالك العجوز علينا حتى ارتجف بدني وخلته أحد كبار العرش وقد اتى ليرجعني الى حوش جدتي .. شيخ في الستين من عمره, انحنى ظهره وكأنه يحدق في شئ ما ويريد أخذه. اشعث الشعر ويرمي على جانب من رأسه بخرقة بالية فلا تفرق بين لونها ولون بياض شيبه المسترسل . يضع على جانب من فمه سيجارة حلوزي ودخانها يشكل غمامة على وجهه فما ترى منه غير تلك التجاعيد البارزة في جبينه العريض و حاجبين عريضين كأنهما أوتاد لمساندة تلك الجبهة العريضة كجدار. بهمزة من أمي من مرفقها وتمتمة من بين شفتيها وقفت مضطربا مفجوعا وسلمت عليه . عسيلامة ع..ع عمي. فخرجت من بين شفتيه حروف غليظة جافة ارتدعدت لها . رد : . عااااا السلامتك انت ولد تركية ..منه الى جابك ووقتاش جيت .. سردت عليه كيف أتيت . لم يبدي اهتماما البتّة . إما أنه لم يبالي بهذا القادم الصغير أو أنه التسم في داخله عذرا لطفل صغير يهجر عرشه من أجله خواء في قلبه لحنان أمه . اشتهيت أن ابيت عند حضن امي لأشبع واتزود بحنانها واملأ ذالك الفراغ لكن ... هاهو مؤذن سيدي عرفة بؤذن وينادي لصلاة المغرب . وهاهو ابي يتراجع عن الدخول للمسجد .. وهاهو زوج امي يترك يدي الصغيرة بعد احمرت وابتلت في قبضته القوية .. وهاهي نسوة الحي يشرنا باصابعهن ويصحنا هاهو **ابنك يا بنت يونس** وبتّ ليلتي مربوط القدمين واليدين وكل لحمي يئنمن الضرب المبرح الذي اكلته من عمي الناصر ومن ابي وحتى من جدتي .. يتبع