تعودت أن أعيش تحت الأضواء.. ومنذ طفولتي.. إذ أن الأضواء التي تتبع أمي لشهرتها كانت تصل إليّ. وفي السابعة عشر من عمري دخلت عالم الأدب والكتابة فأصبحت الأضواء أكثر اقتراباً مني. وأذكر قصة طريفة حصلت معي وكنت في السابعة.. عندما جاءت مراسِلة هيئة الإذاعة البريطانية BBC)) لإجراء مقابلة إذاعية مع أمي.. وكيف أن أمي طلبت منها أن تجري معي مقابلة وهمية حتى لا أغار بعد أن لاحظت اللهفة في عيني وأنا أقف في زاوية الغرفة أتفرج عليهما.. وكان أن أجرت المراسِلة مقابلة معي.. لكن المفاجأة أنها لم تكن وهمية بل كانت تُسجل.. واستمر حديثي الذي انطلقت به لأكثر من ربع ساعة، والمراسلة تسألني قليلاً، وتنصت إلي كثيراً وبانبهار وأنا أحدثها بكل طفولة عن: الأماكن التي أحبها في دمشق، وعن هواياتي في العزف على البيانو، وجمع الطوابع والصور، واستخدام (الباتيناج) في حديقة المنزل، أو داخله مخترقة كل التحذيرات والتنبيهات لأنني أحب أن أغزو الغرف بسرعة صاروخية واحدة تلو الأخرى، وكنت أحدثها أيضاً وبفرح عن الكتب التي أحبها ولدي منها عشرات.. وعن ماذا أريد أن أصبح في المستقبل. وأمي لم تسأل الضيفة المراسِلة ما إذا سجلت تلك المقابلة أم لا.. لأنها كانت تهتم فقط بمشاعري.. فتلاحظها حتى لا تتسرب الى شخصيتي أي صفة سلبية قد تترك آثارها في المستقبل، وخاصة حالة (الغيرة).. فأمي لا يكفي أنها مشهورة، وكل سوريا تعرفها، بل أيضاً كانت شقراء وأجمل بكثير من أن يكون لديها إبنة تحمل ملامحي العادية، ولون بشرتي المصفرة كأنني عليلة.. وشعري الأسود الجعد.. وكان مبرَراً لي أن أغار منها. وعندما عادت المراسِلة الى لندن بذلك الشريط المسجل في بيتنا كان احتفاء ال BBC بمقابلتي أكبر بكثير من احتفائها بالمقابلة مع أمي.. فمقابلتها أي أمي أذيعت على مدى أسبوع لعدة مرات وانتهى الأمر، بينما مقابلتي أذيعت لعشرات المرات على مدى شهور لدى هيئة الإذاعة البريطانية لطرافتها، ولأن الإذاعة آنذاك كانت لأول مرة في تاريخها تجري مقابلة مع طفلة.. وهذه الطفلة تعرف جيداً كيف تتحدث، وكيف تجيب، وبماذا. المهم أنني كنت كلما سمعت الإعلان عن مقابلتي أسرعت لألتصق بالمذياع، فأنصت لما أسمع وأنا في حالة من الفرح والدهشة التي لا تنتهي، وفي كل مرة كان حالي هكذا وكأنها المرة الأولى التي أستمع فيها الى تلك المقابلة، ويخفق قلبي كلما سمعت إسمي يتردد على موجات الراديو، وأطلب ممن يتواجدون حولي أن يستمعوا معي، بل أن ينصتوا وباهتمام.. وحتى تلك البنت الصغيرة التي كانت كمساعدة في المنزل، وتقاربني في العمر كانت لا تنجو من ذلك.. وكنت أخاصمها يوماً بكامله إذا ما تجاهلت مقابلتي، ولم تشاركني.. ولابد أنني استمعت الى تلك المقابلة الشهيرة مراراً وتكراراً حتى انغرست الحادثة في ذاكرتي، وكأنها كانت البارحة. وكلما وجدت أضواء من حولي الآن تذكرت مقابلتي الأثيرة تلك.. وأضحك من براءة تلك الطفلة التي كانت أنا.. كيف كانت تعبر عن طفولتها، وتعلن عنها.