البابا تواضروس الثاني يهنئ الناجحين في الشهادة الإعدادية    جيش الاحتلال: اعتراض صاروخ أطلق من اليمن باتجاه الأراضي الإسرائيلية    الكوكي يسافر إلى تونس للإعداد لمعسكر المصري    هشام زعزوع يشارك في مناقشة بحث علمي حول التحول الرقمي في القطاع السياحي    لجنة قطاع الآداب بالأعلى للجامعات تتفقد المعهد الأفروآسيوي بالقناة (صور)    نائب رئيس حزب المؤتمر: «مدينة الخيام» مشروع صهيوني مرفوض    أسعار نيسان باترول تقفز إلى 14 مليون جنيه وتثير دهشة المستهلكين    بايرن ميونخ يفشل في محاولة ثانية لضم جوهرة شتوتجارت    زد يرحب بانتقال محمد إسماعيل للزمالك    لامين يامال يتسلم رقمه المفضل في برشلونة    القبض على طرفي مشاجرة بالأسلحة البيضاء في الجيزة    مصرع سيدة بطلق ناري في قرية الحجيرات بقنا.. والقبض على شقيقها    بعد الجدل حول جرأة عروضها، بلاك بينك تتألق في لوس أنجلوس    «ولاد الأبالسة».. سلوى عثمان تتعاقد على عمل درامي جديد    «بطة».. أحمد سعد يطرح آخر أغنيات ألبومه بيستهبل (فيديو)    "اكتشف موهبتك" محاضرة بثقافة الفيوم.. صور    كيف نواجة الضغوطات الحياتية؟.. أمين الفتوى يجيب    أدوات النجاة للموازنة بين الضغط والصحة النفسية على هامش معرض مكتبة الإسكندرية    رئيس جامعة المنيا يبحث مع نائب وزير الصحة سبل التعاون لتنفيذ مبادرة ألف يوم ذهبية    مدبولي: الدولة تتبنى فلسفة جديدة في تصميم الطرق| خاص    كيفن هاسيت.. كل ما تريد معرفته عن المرشح الأقرب لرئاسة الفيدرالي بعد باول.. وهذه تفاصيل هجوم ترامب.. كريستوفر والر الحصان الأسود.. والرئيس الأمريكي يشيد بأداء وزير الخزانة    حامد حمدان يثير الجدل برسالة غامضة (صورة)    غلق باب الطعون في انتخابات التجديد النصفي لنقابة الأطباء.. وإعلان النتيجة 20 يوليو    طعام يسبب جلطات القلب والدماغ.. ابتعد عنه قبل فوات الأوان    التصريح بدفن خامس ضحايا واقعة وفاة الأشقاء بقرية دلجا في المنيا    "أنا محبوس هستلم إعلانات المحكمة ازاي".. ماذا قال إبراهيم سعيد في اتهامه لطليقته بالتزوير؟    وزير البترول يقود جولة لكبار الضيوف للمتحف المصري الكبير    شيخ الأزهر يستقبل سفراء مصر الجدد ب 22 دولة قبل بداية مهام عملهم    تنسيق الثانوية العامة 2025 محافظة القاهرة والحد الأدنى للقبول    المرشد الإيراني: قادرون على ضرب خصومنا بقوة أكبر مما حدث في حرب إسرائيل    ميدو عادل وأبطال مسرحية حب من طرف حامد يواصلون بروفات المسرحية و الإفتتاح شهر أغسطس على السامر    الشركة المتحدة: عدم تجديد التعاقد مع لميس الحديدي لفترة مقبلة    النائب أحمد سمير زكريا: مصر تقود صوت العقل في وجه العدوان الإسرائيلي وتحمي الإرادة العربية    كيف اتعامل مع جار السوء؟.. مصطفى عبد السلام يجيب    السد العالي جاهز لاستقبال الفيضان.. خبير يكشف سيناريوهات جديدة بشأن سد النهضة    تنفيذ 50 ألف حكم قضائي وضبط 300 قضية مخدرات خلال يوم واحد    زراعة شمال سيناء تتابع المرور على محال المبيدات والأسمدة في العريش    جامعة بنها تنظم أول مدرسة صيفية أونلاين بالتعاون مع ووهان الصينية    تشييع جثمان ميمي عبد الرازق مساء اليوم من مسجد الكبير المتعال ببورسعيد    «الأوقاف» تُنظم ندوات ب 1544 مسجدًا بالتعاون مع الأزهر الشريف    «أوقاف السويس» تنظّم ندوة في ثالث أيام الأسبوع الثقافي    رئيس جامعة أسيوط: المدن الجامعية تمثل عنصرًا أساسيًا في منظومة التعليم الجامعي    مفاجأة عاطفية.. توقعات برج الثور في النصف الثاني من يوليو 2025    بين الحب والاتباع والبدعة.. ما حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف 2025؟    شاهده مليون شخص.. تعرف على تفاصيل أحدث أفلام كريم عبدالعزيز في السينمات    كنوز| ذكرى «أمنحتب» القرن العشرين صاحب موسوعة الحضارة المصرية    غرفتا مطروح والأقصر تناقشان تعزيز التبادل التجاري ودعم المشروعات المحلية    «علاج طبيعي القاهرة» تطلق غدًا مؤتمرها الدولي حول جودة الحياة والذكاء الاصطناعي    مصرع سائق وإصابة ابنته فى حادث تصادم سياريتين على طريق "الغردقة - غارب"    رئيس الوزراء يوجه بالتعاون مع الدول الإفريقية فى تنفيذ مشروعات لتحقيق المصالح المشتركة    تحرير 531 مخالفة ل«عدم ارتداء الخوذة» وسحب 787 رخصة خلال 24 ساعة    بعد 12 عامًا.. خلفان مبارك يغادر الجزيرة الإماراتي    بتوجيهات السيسي.. وزير الخارجية يكثف الاتصالات لخفض التصعيد في المنطقة    رئيس قطاع الصحة بالقاهرة يجتمع لمتابعة فعاليات حملة 100 يوم صحة    الجيش الإسرائيلي يبدأ شق محور جديد داخل خان يونس    الفضة بديلا للذهب.. خيار استثماري وفرص آمنة للادخار    مفاجأة منتظرة من ممدوح عباس وجون إدوارد ل جماهير الزمالك.. خالد الغندور يكشف    قتلى ومصابون جراء قصف روسي على عدة مناطق في أوكرانيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الواقعية التعبيرية في شعر كريم عبد الله
نشر في شموس يوم 17 - 06 - 2016

إنّ وطأة الأحداث و ما تمرّ به شعوب الأرض عموما و العربية و الاسلامية خصوصا ، لا يترك مجالا للكتابة الرومانسية و الذاتية ، بل يدفع و بشكل واع و غيرواع نحو تصوير المأساة و ندب الواقع المرّ لهذا العالم الأعمى . و بخلاف الواقعية القديمة التي ازدهرت في القرن التاسع عشر المعتمدة على محاكاة الطبيعة و التصوير المطابق للخارج ، فإنّ تناول الواقع و المأساة الخارجية في الكتابات المعاصرة إنّما يعتمد التصوير التعبيري و طرح الموضوعات بصبغة ذاتية و داخلية (1) ، وهذا جمع فذّ و متقدّم بين الواقعية بتناول الخارج و الموضوعي و التعبيرية بطرح الموضوعي بصيغ و اشكال داخلية و ذاتية . و من هنا صح أن نسمّي الكتابة الجديدة التي تتناول الواقع بأنها واقعية جديدة لإختلافها تقنيا عن الواقعية القديمة و صحّ أيضا أن نصفها بالواقعية التعبيرية لهذا المزج بين ما هو ذاتي و ما هو موضوعي .
لقد أشرنا في مناسبات كثير و في مواضع عدّة من كتابنا ( التعبير الأدبي )(2) أنّ الكتابة ذات الملامح الإنتمائية و المرتبطة بالواقع و الخارج تمثل شكلا من أشكال الأدب الرسالي . و أنّ هذه النصوص الرسالية و بمحافظتها على المستوى الفني العالي الذي وصلته الكتابة المعاصرة و ما صاحبها من تغيّر في الوعي تجاه اللغة عموما و الكتابة خصوصا و الأدب بشكل أخصّ ، تحقّق أدبا رفيعا عذبا يضرب بعيدا في جهات عدّة أهمها تجاوز اخفاقات الحداثة و عزلة الأدب عن الناس ، بالأقتراب منهم و الكتابة بلغة قريبة بعيدة عن التحليق و التحصينات الرمزية العالية ، و من جهة أخرى أنّها تقدّم أدبا عذبا مبهرا و بنكهة عالمية يمثّل المرحلة و يواكب عصر العوالمة و تداخل الثقافات و من جهة ثالثة مهمّة أنّها في الشعر خاصة تقدّم نموذجا عالميا لقصيدة النثر ، يعتمد النثروشعرية ( 3) و البناء الجمالي المتواصل بكتابة شعر سردي على شكل المقطوعة النثرية بعيدا عن التحسينات الشكلية المعتادة للشعر ، و إنّما الاعتماد الكلي على توهّج اللغة و عمق نفوذها و موسيقها الداخلية و عذوبتها الظاهرة .
كريم عبد الله ، الحائز على جائزة القصيدة الجديدة السنوية لعام 2016 (4) ، يكتب نصوصا تتسم بالرسالية و تحافظ على الفنيّة و الشروط المطلوبة لكتابة قصيدة النثر ، ببناء جملي متواصل و سردية تعبيرية (5) ظاهرة و نثروشعرية جليّة . فالهمّ الوطني و الانساني حاضر دوما في كتابات كريم عبد الله ، كما أنّ الهمّ الأدبي و الجمالي حاضر أيضا بكتابة النص المواكب للقصيدة العالمية المعاصرة ، و تحضر أيضا تلك العناصر المميزة للسرد التعبيري .
لقد تناولنا كثيرا من هذه المظاهر و المضامين الرسالية و الفنية و الجمالية في كتايات كريم عبد الله في كتابنا ( التعبير الأدبي ) و في غيره لأهمية هذا الشاعر ، هنا سنعمد الى بحث أسلوبي في تجلّ تلك المظاهر الواقعية التعبيرية في شعر كريم عبد الله ، و بالضبط نظام و حالة المزج بين ما هو واقعي و ما هو تعبيري في الوحدات الكلامية من النصوص ، و لقد بينا في مناسبة سابقة (6) أن الواقعية الجديدة في الشعر ، لها أشكال منها النص البسيط كما عند أنور غني و منها القصيدة السريالية كما عند فريد غانم و منها السرد التعبيري كما عند كريم عبد الله ، و أشرنا هناك أنّ الجامع لذلك هو اللغة المتموجة التي تتنقل بين التوصيلية و الرمزية و بين الواقعي و الخيالي .
و من المهمّ الأشارة هنا أنّ تلك التصنيفات و التسميات التي نعتمدها إنما هي وليدة الحاجة و الضرورة لأجل مواكبة النص المعاصر و القصيدة المعاصرة ، حيث أنّا في كتبتنا و بحثنا – و كما يعلم الكثيرون – نتجه من النص الى النظرية و ليس العكس كما يفعل البعض بالنزول من النظرية الى النص بأحكأم مسبقّة و ممارسة وصاية فنية و جمالية ، لأنّ وظيفة النقد و البحث الأدبي هي متابعة النص و ملاحقته و النظر اليه كظاهرة انسانية بتجرد و بحريّة من دون اسقاطات و لا تكلفات ، وهذا ما نسميه النقد الصادق الذي لا يرى في النص الا ما فيه و لا يحاول أبدا تطبيق نظرية جاهرة على النص كما في المدارس البنوية و ما بعدها من تفكيكية و أسلوبية و التي لا يمكنها الصمود أمام سعة تجربة و ثراء القصيدة المعاصرة ، بل لا بدّ من اعتماد نقد منفتح و حرّ و مرن و أمين و مؤمن بالنص ، يضعه في المقدمة ليس فقط باعتباره مادة بحث فقط بل باعتباره منجماً للعطاء و الاضافة مع اعتماد السهولة و الوضح في الافكار و التعابير . وهذا ما يمكن أن نصفه ( بمابعد الأسلوبية ) في النقد و البحث الأدبي .هنا سنتناول مقاطع من مجموعة قصائد للشاعر كريم عبد الله نشير فيها الى ملامح الواقعية التعبيرية ( الواقعية الجديدة ) في الشعر كنماذج أسلوبية و أشكال كتابية . و هذه القصائد كلّها منشورة في مجلة تجديد الأدبية المكرّسة بالكامل لقصيدة النثر السردية الأفقية ( 7) .
من الموضوعات الحاضرة في شعر كريم عبد و كنموذج للرسالية و التعبير الانتمائي هو الحزن و الأسى للخراب و آثار الحرب ، اذ لا تجد نصّا له الا و تجده معجونا بهذا الحزن .
في تعبيرية عالية لواقع مرّ و أعمى يحضر الظلام فيه و الأسى و يتخفّى خلف كلماته الفاعل المخرّب كحالة من المسكوت عنه و نظام من الغياب و الحضور للمعاني و الدلالات ، حيث يقول كريم عبد الله في قصيدة (خيانةٌ في تلافيفِ العقل )
(شمسٌ سوداء تتشمّسُ عليها خيانة أسئلةٍ مِنْ مقابرها الموغلةِ في أعماقِ الأنا . تتسلّلُ بلا صوتٍ بعنادٍ ترفضُ الظلامَ .../ دويٌّ يمعنُ حفراً في أخاديدِ تجاويفِ الروح يسرقُ الأمانَ لا يورّثُ إلاَ أرتالاً مِنَ المتاريس .../ كالشياطين تتراقصُ تُحكِمُ أقفالها على منافذِ رحلةٍ ملغومة تشدُّ إلى نفقٍ كابوسهُ طوييييييييييل ..)
انّها الشمس السوداء المظلمة ( نظام رمزي ) و أسئلة خائنة متجذرة في عمق الأنا ( نظام تعبيري) في نظام مجازي رمزي ، تتسلل بلا صوت عناد يرفض الظلام ، انه الخواء و وجه الخراب ( نظام توصيلي ) ، في ( نظام سردي ) . ثمّ ترجع اللوحة بصورة أخرى ( فيسفسائية تعبيرية ) (دويٌّ يمعنُ حفراً في أخاديدِ تجاويفِ الروح ) ( خيالية رمزية ) هنا مرآة و ترادف معنوي للجملة الأولى ( مقابر موغلة في عملق الأنا ) ، مما يحقق الفسيفسائية . ثم هو ( يسرقُ الأمانَ ) ( واقعية ) وهنا شرج للشمس السوداء وهو ايضا فسيفسائية تعبيرية فهو ( لا يورّثُ إلاَ أرتالاً مِنَ المتاريس ...) ( توصيلية و واقعية ) وهنا يحضر خيط الى المسكوت عنه من حيث الارتال و المتاريس وهي وطأة الحرب .
في ما قدّمناه من استقراء أسلوبي كشف عن انظمة معقدة تعبيرية ، تصف واقعا محزنا و آثارا مدمرة و ظلاما يتجذر في النفس ( الكلية ) ، بلغة متموجة تتراوح بين التوصيلية و الرمزية و بين الواقعي و الخيالي ، و بسرد تعبيري بقصد الايحاء و الرمز و ليس بقصد الحكاية و القص ، مع توظيف للفسيفسائية تجذيرا لرسالة النص و تمكينا للفكرة و مزيد بيان لوطأة و عمق المأساة ، فانّ من أهم دواعي الكتابة الفسيفسائية هو تجذير الرسالة و تعميقها في نفس القارئ .
و تحضر الواقعية التعبيرية بصور الحزن و الأسى و الخواء و الخراب في قصيدة (قيامةُ الأدغالِ المرتجفة )
( تفقّدَ أضلاعَ أيامهِ ../ كانَ ضلعٌ أعوج يتمطّى ../ تركَ القفص مهجوراً ../ بلا جدوى........... غاباته الغارقة بأسى الشفق ../ أمطرتْ بعشراتِ الحكايات ../ فشبَّ في النهاراتِ حريق ../ ............... / لكنَّ مساحات الندم ../ إفترشتْ لوعةَ القنوط ...المواعيدُ على غيمةِ الرحيل .../ التذاكر مسروقةٌ في كفِّ العطش .. حقولُ القمحِ فوقَ الصدرِ تحلمُ بنيّسان المناجلُ جرّحتْ أخاديدَ جوع الينابيع ... على هاويةِ الحزنِ الساكت ../ شربوا الملذّات بكأسِ التشفّي ... )
و هنا أيضا و بسرد تعبيري و نثروشعرية ظاهرة و لغة متموجة تتنقل بين الواقعي و الخيالي و التوصيلي و الرمزي ، يوثق لنا كريم عبد الله الواقع المر و الخارج الموضوعي السقيم ، فالقاموس اللفظي لهذا االمقطع – وحده فقط – ينقل القارئ الى الحقول المعنوية المرتبطة بالخواء و الخراب و الحزن و الأسى ، و لقد بينا في مناسبة سابقة ( 7) أنّ القاموس النصي يمكن أن يوظف كمعادل تعبيري (9) دون الحاجة الى التراكيب الجملية المعنوية ، بمعنى عدم انحصار التعبير بالجمل المفيدة بل ان مزاج النص و فضاؤه العالم و العالم الذي سيعيش فيه القارئ يعتمد كثيرا على قاموس الألفاظ التي يختارها المؤلف ، و أنّ من خلال العلاقة بين القاموس النصي و معاني الجمل و رسالة النص يمكن استخراج عدد من اشكال الانظمة التعبيرية المركبة و المعقد و التي تؤثر في وعي القارئ وهذا ما سنتناوله في مقالات قادمة ان شاء الله .
و أيضا من الأساليب التي يجيدها كريم عبد الله و التي هي من علامات الكتابات الواقعية هو توظيف المفردة اليومية و الحياتية حتى انه احيانا يستعمل المفردات العامة كما هو معروف لمتابعيه ، و كثيرا ما يستعمل أكثر المفردات حياتية و يومية و التي تخرج عن الشعر الرمانسي بالمرة يطعم بها الانظمة الرمزية . في قصيدة (منشارٌ على قارعةِ الحكاية )
نجد العنوان منشار وهو خارج نظام القصيدة الرمانسية و الكتابات الانتقائية ، وهو مختار بشكل متعمد كما يختار غيره من المفردات اللاشعرية في الشعر ، وهذا يذكرنا بحركة ( الشعر ضد الشعر ) بأن يكتب الشعر بمفردات غير شعرية هي في منتهى البساطة و اليومية و الحياتية او التقريرية فنجد القصيدة التقريرية او الاخبارية او اليومية و كل هذا هو من الواقعية الجديدة ان صيغت بشكل جيد و وظفت برمزية و ايحائية تكسبها التوهج و الابهار .
في هذه القصيدة (منشارٌ على قارعةِ الحكاية ) يقول كريم عبد الله
(الحظوظُ شعثاء تحرّكُ شطوط الألم تنقلُ هوادجَ حزنِ الأرض ، خَبَرتْ حنكةَ منشارٍ حاذقٍ يدمنُ لعبةَ إقتناص المغانمِ الوفيرة مبتسماً يمارسُ طقوسَ المكائدِ الساخنةِ ، طوّفتْ في درابينهم الهاربة ، تسارقُ بيقينِ قطّاعِ الرقاب ، يتغلغلُ القحطُ في حكاياتِ أولادِ الدموعِ الرخيصة مذ كان الغراب يتوضأُ بالخطيئةِ هيّجَ إستعراض الجيوشِ الهائجةِ خيولَ الغزوات ، تستحلبُ الضواري تقاويماً تستدرجُ الآلامَ في مزادٍ مجانيٍّ مرضعتهُ رثّةُ الضرعِ تروفُ وقتاً شحيح الألفةِ يتقافزُ على خارطةِ الزمنِ العجول ينزُّ مِنْ طيّاتهِ نحسٌ يذرقُ مبتهجاً في ماسورةِ الحلمِ يحلمُ أنْ يكونَ متأنقاً مرفوعَ الرمح تعلوهُ فضيحةُ الدسائسِ خيانةٌ مسعورةٌ تحشرجُ في أحاديث ملساءَ كجلدِ افعى تدفنُ بيوضها في صحراء تافهة تشتاقُ كثبانها نزعةَ توترٍ تعتصرُ نشوةً عجفاءَ بواعثها مركونة الى أجلٍ أعمى تسبحُ فيهِ رائحةُ القلق الخشن متخبطاً باللامبالاةِ تفخخه الاعلانات تحدُّ كتلٌ إسمنتية صماءَ . )
في هذا المقطع العالية النثروشعرية و بناء جملي متوصل ، يحقق النص شكلا جديدا من التموج اللغوي ، ليس من حيث التراكيب المعنوية بل من حيث المفردات فالنص يتنقل بين مستويات من الانشاء للمفردات فمن كلمة عالية الشاعرية الى كلمة يومية و بسيطة جدا وهكذا . فوسط الكلمات المنتقاة و العالية الشعرية نجد كلمات ( منشار ، درابين ، الاعلانات ، اسمنتية) .
و هنا تحضر ايضا الواقعية التعبير بما تقدم من مفردات يومية و بحضور الحزن و الأسى و الخراب و الخواء ، ساء على مستوى قاموس المفردات ام على التراكيب المعنوية و الافادات . فمفردات ((الحظوظُ شعثاء ، شطوط الألم ، هوادجَ حزنِ الأرض ، منشارٍ حاذقٍ ، المكائدِ الساخنةِ ، ، درابينهم الهاربة ، تسارقُ بيقينِ ، قطّاعِ الرقاب ، يتغلغلُ القحطُ ، يتوضأُ بالخطيئةِ ، تستحلبُ الضواري ، تستدرجُ الآلامَ ، مرضعتهُ رثّةُ الضرعِ ، وقتاً شحيح الألفةِ ، الزمنِ العجول ، نحسٌ ، فضيحةُ الدسائسِ ، خيانةٌ مسعورةٌ ، تحشرجُ ، أحاديث ملساءَ ، كجلدِ افعى ، صحراء تافهة ، نشوةً عجفاءَ ، أجلٍ أعمى ، القلق الخشن ، متخبطاً باللامبالاةِ ، تفخخه الاعلانات )
انّ كريم عبد الله هنا كشف عن قدرة تعبيرية مهولة ، حيث انه لم يترك اية امكانية للغة الا و وظفها لأجل بيان رسالته ، فالالفاظ مختارة بشكل يمكن من القول ان الشاعر كان يعيش اللحظة الشعرية الغارقة التي تفيض بالتعابير ، فما من مفردة الا وهي معبأة بالألم و معبرة عن الخواء و العمى باكبر قدر من طاقاتها بحيث انه لا يمكن أداء تلك المعاني بغير تلك الالفاظ . كما انّه قدّم هنا مقطوعة تعبيرية لم تدع شيئا ذكرته الى و وجهته توجيها ذاتيها و تطرفت في وصفه و بالغت في نعته و حاله وهذه من معالم التعبيرية الحقّة ، و لو أنّا اردنا تقديم نموذج للتعبيرية في الشعر فانّ هذا سيكون أحدها ليس على مستوى الشعر العربي بل العالمي أيضا .
كما أنّ هنا أساوبا آخر استخدمه المؤلف وهو تعدد الاصوات . حيث نجد تعدد الرؤى واضحا ، و لكريم عبد الله قصائد بوليفونية متعدد الاصوات كثيرة ( 10) . و نجد الرؤى و الاصوات المتعددة المحققة للبوليفونية
الصوت الاول : الحظوظ الشعثاء : ( ((الحظوظُ شعثاء تحرّكُ شطوط الألم تنقلُ هوادجَ حزنِ الأرض ، ) فالتحريك و النقل افعال فاعلة تعبر عن تبئر خارجي و محايد للمؤلف و يتجلى صوت الفاعل .
الصوت الثاني : المنشار : ( خَبَرتْ حنكةَ منشارٍ حاذقٍ يدمنُ لعبةَ إقتناص المغانمِ الوفيرة مبتسماً يمارسُ طقوسَ المكائدِ الساخنةِ ،) فحاذق و مقتنص للمغانم و مبتسم كلها تعبر عن جهة و رؤية الفاعل و الشخصية النصية و ليس المؤلف بالطبع .
الصوت الثالث : النحس : ( ينزُّ مِنْ طيّاتهِ نحسٌ يذرقُ مبتهجاً في ماسورةِ الحلمِ يحلمُ أنْ يكونَ متأنقاً مرفوعَ الرمح تعلوهُ فضيحةُ الدسائسِ ) فالنحس يذرق مبتهجا و يحلم ان يكون متأقنا مرفوع الرمح ، وهذه كلها من بؤرة الشخص الثالث الذي لا يتدخل و يحايد بينما عبارة ( تعلوه فضيحة الدسائس ) هي من انطباع و رؤية المؤلف . و هكذا في باقي النص . و من الواضح أن البوليفونية و تعدد الاصوات و الذي هو من سمات الرواية اساسا ، غالبا ما يكن في الشعر ملتصقا بالرسالة و الانتماء و بيان الواقع و اداة تعبيرية للتعبير عن الخارج و الموضوعي و يختلف جدا عن التعبيري الغنائي و الرمانسي الغارق في الذاتية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.