أ.د.إلهام سيف الدولة حمدان – مصر قد نتفق أو نختلف على بعض ٍ مما حولنا من أشياء أو معاملات حياتية أو أشخاص أو سياسات أو عقائد، لكننا في الأغلب الأعم؛ نتفق على كل مظاهر الجمال في الطبيعة أو السلوك الإنساني القويم، وقد يأتي هذا الاتفاق باختلاف النسب، ما بين العادي والمتوسط والجيد والممتاز ، لكنه في كل الأحوال اتفاقٌ ضمني وتلقائي على منظومة الجمال في شتى صوره وأساليبه . والذي دعاني إلى تناول موضوع "الجمال"؛ هو هذا الزخم الذى تشبعت به روحيًا وعقليًا بحضوري ندوة رائعة عن "الموسيقا والفن التشكيلي"؛ داخل صرح من صروح الثقافة المصرية الرائعة . وهي الموسيقا التي يصفونها بأنها غذاء الروح؛ وهي التى تطبِّب الجراح والتشققات التي قد تحدث في جدار الروح في رحلة الحياة وصراعاتها، وعلاقتها بالفن التشكيلي الذي يعد موسيقا الألوان، وكُني بالتشكيلي؛ لأنه يؤخذ من الواقع وتعاد صياغته في شكل جديد؛ أي يتم "تشكيله" تشكيلاً جديدًا؛ يقوم به الفنان الباحث آخذًا مفرداته من محيطه، ولكل فنان رؤاه ونهجه وبصمته المتفردة على إبداعه الفني، لذا تعددت طرق المعالجات في هذا الفن؛ وتوصلت المدارس الفنية إلى عدة تفريعات تخرج من بؤرة ضوئية واحدة، مابين المدرسة الواقعية، المدرسة الانطباعية، المدرسة الرمزية، المدرسة التعبيرية، المدرسة السيريالية، المدرسة التجريدية ، وجميعها اتفق الجميع على تسميتها " الفنون المرئية " وهي مجموعة الفنون التي تعمل على إنتاج أعمال فنية يحتاج تذوقها إلى الرؤية البصرية المحسوسة، كالرسم والتلوين والنحت، وتقاس أبعادها بوحدات قياس المكان ( كالمتر والمتر المربع )، وتختلف عن الفنون الزمانية كالرقص والشعر والموسيقا؛ فهي تقاس بوحدات قياس الزمن ( الدقائق والثواني ) ؛ وتعتمد في التذوق على الحواس والمشاعر ومدى تأثيرها على ذائقة المتلقي . وما أحوج الإنسان فى ظل الظروف الحياتية الضاغطة؛ إلى واحة وارفة الظلال؛ وحائط رطب يسند إليه ظهره لالتقاط الأنفاس، ولن تتأتى له هذه اللحظات الفارقة؛ إلا بتنمية الذائقة الجمالية وتربيتها داخل روحه ووجدانه؛ لتفضي به إلى لحظات التناغم والإنسجام بين أفراد المجتمع الذي ينتمي إليه، فالتربية الجمالية هي أقصر الطرق إلى تحقيق التوازن الروحي والنفسي؛ بفعل التراكم اللاشعوري في ذائقة الإنسان البصرية والحسية . وضروب الفنون كلها تعمل على تصعيد وزيادة هرمونات الذائقة الجمالية بالموسيقا، والفن التشكيلي، والمتاحف، وصالات عرض الفنون، ونافورات الميادين، وواجهات المباني، وأسوار المدارس، والأزياء،والشعر وكل أماكن التجمعات الجماهيرية فى الحدائق والمتنزهات؛ فالاهتمام بكل هذه المظاهر لابد أن تبدأ مع النشء في وقت مبكر من مرحلة الطفولة؛ حتى تتفتح زهور ملكة الإحساس بالجمال لديه؛ لتصير جزءًا لا يتجزأ من سلوكيات حياته . والتربية الجمالية : تعبير يُقْصَد به الجانب التربوي الذي يرقق وجدان الفرد وشعوره، ويجعله مرهف الحس، ومدركًا للذوق والجمال؛ فيبعث ذلك في نفسه السرور والارتياح، فيرتقى وجدانه وتتهذب انفعالاته، وكل هذا يساعد على قوة الإرادة وصدق العزيمة لديه، ومنذ عهود طويلة أحس الناس أهمية الجانب الوجداني الجمالي حتى أنَّ حكمة صينية قديمة قالت: " إذا كان معك رغيفان من الخبز فبع أحدهما واشترِ بثمنه باقة من الزهور"، ومعنى ذلك أنَّ الاستمتاع بجمال الطبيعة يسد حاجة نفسية عند الإنسان لا تقل أهمية عن الرغيف الذي يسد حاجة جسدية عنده . وبطبيعة الحال من يكتسب هذه المشاعر المرهفة التي تقترب من مشاعر المتصوفة في محراب الجمال؛ لن يجنح إلى ارتكاب أفعال الشر والحقد ضد مجتمعه وبني جلدته ؟ وسيبتر العنف من جذوره من خلال تكوينه السوي فيصبح أحرص الناس على إقامة علاقات طيبة مع الجميع . وكم تمنيت أن تمتد ساعات هذه "الندوة" الرائعة؛ عن الموسيقا والفن التشكيلي بين جنبات هذه القاعة ؛ لنعيش اللحظات النادرة والفارقة فى إيقاعات يوم العمل الشاق؛ والتي تكسر الملل والرتابة؛ وتجدد خلايا العقل وتثريه بكل شذرات الجمال الذى نبحث عنه في كل مكان . وحتى لا يطول البحث والتنقيب، علينا أن نبدأ العمل على خلق آليات التذوق الجمالي ؛ بإحياء فنون التراث والفولكلورالأصيل؛ والعمل على زيادة قاعات العرض التي تعني بإنتاج الفنانين الشباب، على أن تقام ندوات جماهيرية على هامش هذه الفعاليات والعروض، يتولى ريادتها وإدارتها أساتذة متخصصون في شرح سيكلوجية الخطوط في اللوحات الفنية ؛ وتبيان مدى تضافر الألوان مع بعضها البعض بما يسمى الموسيقا اللونية . ولا يخفي على المتخصصين في فروع الفنون المختلفة مظاهر الاتصال والقواسم المشتركة التي تمد جسورًا من التناغم بين كل لون من ألوان الفنون؛ فهي تستقي من جاراتها مايغذي ويكمل ويبرز مواطن الجمال المنطوي عليه، لذا نجد من يتذوق الموسيقا مثلاً ؛ لابد أن يستشعر مافيها من تشكيل وزخرفة وتلاوين؛ تعمل عليها الآلات الموسيقية المختلفة وإيقاعاتها التي تتواصل مع التعبير الجسدي الذي يتمايل معها في شبكة متصلة تتبلور فيها كل الفنون وتتضافر فنعيش حالة تكامل نتماهى معها ويسمو وجداننا وننعم بالجمال في أبهي صوره فنتلمس آدميتنا .. فنمو الذائقة الفنية ينبني علي إحساس المرء بالجمال؛ ويضفي علي حيواتنا معني أثيرًا نترفع به ونرقي خلقا وسلوكًا. ليتنا نهتم بجعله من روتين حياتنا اليومية هذا هو المأمول طريقاً لنبذ العنف ! أستاذ العلوم اللغوية أكاديمية الفنون