في ظل التناقضات الإجتماعية العميقة التي يفرزها التخلف الإقتصادي والإجتماعي تكون الرؤية السياسية والإجتماعية رؤية معتمة فلا ترى الجماعة السياسية أي أرضية مشتركة يمكن الإلتقاء عليها وعدم الخلاف والإختلاف حولها بإعتبارها من المقومات الأساسية للمجتمع 0 أي أن هذا المجتمع تعتريه مثل هذه الظروف الموجدة للتوتر الإجتماعي العام0 وبدون أن ينقصه الإتفاق بين أطرافه على الأسس الرئيسية التي يقتضيها السلام الإجتماعي والسياسي للجماعة0 ومن ثم فإن العنف من جانب الطبقة المتميزة إلى جانب العنف من جماهير الشعوب الفقيرة يصبح هو السمة المميزة للمجتمع فيبدو وكأنه يعيش في حالة حرب أهلية 0 ولعل ما يجعل هذا المجتمع المتخلف يتفادى التوتر الإجتماعي الذي قد يفضي إلى حرب أهلية 0 هو وجود نظام ديكتاتوري 0 وهذا الذي كان سائدا في عالمنا العربي من قبل0 أما الشعوب المتقدمة صناعيا وزراعيا واجتماعيا فمثل هذه الشعوب يضع التقدم حدا لحالة العجز ونقص الموارد اللذين يعتبران من أهم مصادرالتناقضات الإجتماعية العميقة 0 فالمجتمعات الصناعية المتقدمة تضمن الحد الأدني من ضروريات الحياة لجميع المواطنين ففهي تضمن إشباع الحاجيات الأساسية كالمأكل والمشرب والملبس والمسكن ثم تضمن بعض الحاجيات الملازمة لتلك الضروريات و المكملة لها0مثل الراحة واستقلال أوقات الفراغ والثقافة 0 إذن فالتقدم الإقتصادي يجعل الأفراد يعيشون في مستوى المعيشة ييضع حدا للثراء الفاحش الذي قد تتمتع به الأقلية من جهة وللفقرالذي قد يتفشى في أوساط الأغلبية من جهة أخرى0 حيث هذا الإنتعاش الإقتصادي يلقي بظلاله على الحياة السياسية داخل المجتمع لما يؤدي إلى تحقيق التوترات الإجتماعية بين طبقات المجتمع وفئاته 0 وفي مثل هذا الجو يتبلور نوع من الإتفاق الإجتماعي على الأسس الرئيسية للمجتمع تتعايش في ظلالها الفئات والطبقات الإجتماعية 0 ويغدو الصراع حول التغييرات محفوفا بالثوابت 0 لما يصير الصراع حول المتغييرات التي يتم من خلالها أطر سياسية ودستورية مقبولة بديلا عن الصراع على أسس النظام الذي يفضي إلى تقويض بنيانه0 وهكذا يتحول المجتمع من مجتمع قائم على الصراع إلى مجتمع قائم على الإتفاق 0 وهذا هو الإطار الملائم لقيام تعدد الأحزاب السياسية وما يقتضيه هذا النظام من مبدأ الأخذ بمبدأ المعارضة بين أصحاب الرؤى الفكرية المختلفة في المتغيرات والمتفق في الثوابت0 أقول هذا لإن الواقع الإقتصادي والإجتماعي في عالمنا العربي يتمييز بالخصائص التالية منها أن بعض البلدان العربية تعاني ضغوطا سكانيا وأن الموارد الطبيعية تستغل بأساليت متخلفة وبالية زيادة على أن سكان العالم العربي متخلفون إقتصاديا واجتماعيا وفكريا وكذا النقص في رأس المال الإنتاجي 0 كما أن مجتمعاتنا العربية هي منتجة للموارد الأولية وتتجه صوب التجارة الخارجية 0 وهذا مما يجعل الأرضية الإقتصادية تفتقر للعمق الذي يؤهلها لأن تجعل الحرية السياسية قادرة على تثبيت جذورها حتى تستطيع أن تتطور0 فحتى الدول التي إستودت أدوات الحرية السياسية المزدهرة من الدول الغربية المتقدمة وأرادت إعمالها في الواقع السياسي فشلت وتضافر التخلف الإقتصادي والإجتماعي والفشل في الحرية السياسية المستوردة 0 لأن عملية الإستراد الديموقراطي هذه التي تمت في أوائل ومنتصف القرن العشرين كانت مقترنة بالتخلف الإقتصادي والإجتماعي 0 لذا عجزت عن حل قضايا الصرعات الإجتماعية فانتهت هذه التجارب المستوردة بالفشل عن طريق الإنقلابات العسكرية وإقامة الحكم الفردي والديكتاتوري 0 ومع هذا فإن تأمين الحرية السياسية داخل المجتمعات العربية هو الشرط الأساسي لإحداث عملية تنمية كاملة 0 لأن التقدم الإقتصادي والإجتماعي يحتاج إلى تعبئة ووعي سياسي وهذا لا يتم إلا في المجتمعات التي يكون الإنسان فيها حرا وشاعرا بذاته فيتمتع بحضور فعلي مع الجماعة السياسية 0 إذن من أسباب أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي هوإفراز التخلف الإقتصادي والإجتماعي من إرتباط ملحوظ للنظم الإقتصادية العربية بالنظام الرأسمالي العالمي حيث أدى هذا الإرتباط إلى وجود أنظمة عربية لا تعبأ بالتطلعات والطموحات الشعبية وشل أيضا من فاعلية أي مشروع حضاري مستقل تفكر الشعوب العربية في إقامته أو إعادة مشروعها الحضاري الذي أشرف ضوئه في مرحلة من مراحل التاريخ التي مضت وانقضت وترتب عن هذا كله تراكم الديون على الشعوب العربية 0 وأدى هذا التراكم إلى خلق توترات إجتماعية وسياسية 0 وهذا معناه أن النمط السياسي العربي الذي يقوم على الحوار والإختلاف في الرأي وما يتبع ذلك من قيام تعدد الأحزاب 0 فهذا النمط لا يصلح في الوطن العربي حيث تم إستراد هذا النمط الديموقراطي وأدرك الجميع مدى زيفه وعدم فاعليته ووتفاعله مع الواقع الإقتصادي والإجتماعي في البلدان العربية0 وهذا ما جعل من أبناء الوطن العربي يرون أن النمط الشمولي المركزي الذي يلتف حوله الجميع الذي يكون فيه وظيفة الدولة التخطيط المركزي الشامل وتكون مهمة الشعب التنفيذ 0 كما تكون الدولة هي القائد ومحورها هو الجيش والمثقفون ليسوا إلا جنودا في نظام الدولة وهذا النمط الذي يطلق عليه إسم الإستبداد السياسي0 علما بإن الدول الرأسمالية لم تصادف في نموها أي نوع من الظروف التي تعيشها اليوم الدول العربية حيث لم يكن هناك عدو خارجي في الميدان السياسي والعسكري وكذا في الميدان الإقتصادي 0 وهذا مما أدى إلي بناء الإقتصاد الرأسمالي على أسس وطنية متكاملة الأطراف ومتمركزة على الذات زيادة على الإستفادة من النهب الإستعماري 0 كما أن الرسمالية في العالم العربي لم تولد من أرحام الأوساط الشعبية البعيدة عن اللطلة السياسية 0 فالتنمية الرأسمالية الوطنية قد تمت في إطار سيطرة الدولة على الإقتصاد والمجتمع في كل البلدان العربية وعندما حاولت الأجيال العربية الجديدة فرض نفسها داخل النظام الإقتصادي العالمي واجهتها رأسمالية تفوق قدرتها رأسمالية دولية ذات نزعة إحتكارية 0 وهذا مما جعل الرأسمالية في عالمنا العربية تعاني من أمرين أحلاهما مر الأول الضغط الإستعماري الخارجي والثاني الخوف من الجماهير الشعبية وهذا مما جعل الإقتصاد العربي يتسبب في أمرين خطيرين الأول التبعية في الأمن الغذائي العربي والثاني التبعية في الأمن الحربي حيث معظم الدول العربية تعمد في غذائها على الإستراد الخارجي وكذا في تسليحها على السلاح الأجنبي 0 ومادام كل من اللأمن الغذائي والأمن العربي تابعين للغير فلا يمكن أن تكون الإرادة السياسية حرة حرية كاملة في كل ما تنتجه وتختار 0 زيادة على الإجراأت الخطيرة الناتجة عادة عن توصيات صندوق النقد الدولي والتي تتجسد فيما: تخفيض الواردات إنخفاضا كبيرا وكذا تخفيض قيمة العملة الوطنية بهدف تشجيع الصادرا ت والتقليل من الإنفاق العام عن طريق الحد من بعض الخدمات التي تقدمها الدولة أو رفع أثمانها ومع زيادة إرادة الخزانة العامة عن طريق فرض ضرائب جديدة على الإستهلاك ورفع أسعار الفائدة بغية تشجيع الإدخار 0 وتخلي الدولة عن إدارة بعض الأنشطة الإقتصادية التي لا تحقق ربحا يذكر والتي يمكن أن يقوم بإدارتها واستثمارها القطاع الخاص والإستثمار الأجنبي بقصد التعويض عن بعض الإستثمارات العامة التي كانت تمول من قبل بطريق تضخمي أو الإستدانة من الخارج وينتج هذا إنخفاض الناتج المحلي وارتفاع معدلات البطالة وانتشار حالة الإفلاس في أوساط المشاريع خاصة الصغيرة والمتوسطة0 هذا وتبقى أولويات الهموم التي تشغل بال المواطن العربي اليوم وكل القوى السياسة في الساحة السياسية العربية هي أن الحرية السياسية بكل ضماناتها تقف في أعلى سلم الهموم العربية حيث أن هناك اليوم إتجاها متزايدا بين مختلف القوى السياسية الوطنية والقومية على أهمية المناخ الديموقراطي واحترام تعدد الأراء واحترام حقوق الإنسان 0 وأن التنمية العربية وكذا الوحدة العربية لا يمكن تحقيقهما في غياب إحترام حقوق الإنسان ذلك أن الإنسان هو هدف التنمية وأداتها وهو هدف الوحدة وأداتها0 كما أن هناك إتفاق على أن الواقع العربي في هذا الشأن يتطلب تغييرات مهمة وأن الحكومات العربية المتخلفة لا تحترم حقوق الإنسان بشكل أو بآخر وأن هذا الوضع يطرح تأثيرات خطيرة ومدمرة على الأمة العربية 0 إذن هناك تعطيل للفعاليات السياسية وهناك قيود على حرية المواطنين في إبداء أرائهم وهناك تدعيم للإتجاهات القطرية وهناك تحويل منظم للفكر إلى دعاية وهناك صحافة لا تحترم عقل الإنسان ولا تستحث تفكيره ولكن تسعى إلى تعبئته وفقا لوجة نظرة واحدة 0 وإذ هذا الوضع ينصرف عموما إلى الجماهير العربية فينبغي الإقرار بأنه يوجد بشكل أقوى في عالم النساء0 فهذا الوضع طبعا أدى إلى تعطيل ملكة الفكر المستقل والإبداع الخلاق في شؤون الأمة وأوجد حالة من الشلل لا شك أنها أثرت وتؤثر في المسارات السياسية والإجتماعية وحتى الإقتصادية ففي أغلب بلداننا العربية يتردد المثقف عشرات المرات وهو يصوغ أفكاره ويختار عباراته بدقة متناهية وحرس شديد يؤدي أحيانا إلى غموض المعنى وتشويهه 0 وبرع بعضنا في إبتكار الحيل والأساليب لتسريب المعاني بين ثنايا السطور والكلمات إلى آخر ذلك من الألاعيب الفكرية التي تؤدي إلى ضعف الخيال ونقص الإبداع 0 فعندما يتسرب الخوف إلى القلوب يتردد العقل ويضعف التفكير 0 ومع أن جل المفكرين المعاصرين متفقون على أن أزمة الديموقراطية في الوطن العربي وأزمة الحرية السياسية تقف الآن في أعلى قمة هرم الهموم العربية وأنها المدخل السليم والمأمون لحل مشاكل التخلف والتنمية 0 ومع هذا فإن الإستبداد السياسي الذي مارسه حكام العرب في بلدانهم في العقود الماضية قد يبعث بالحرية السياسية من جديد ويصبح ينظر إليها على أنها إنتصار للشخصية العربية وعلى أنها مجرد وسائل لمقاومة سلطان الإستبداد ووضع قيود على طغيانه 0 إلا أنه يبقى على مفكر هذا العصر أن ينبروا للدفاع عن الحرية في مفهومها السياسي بكل سلاح ممكن 0 وكذا بالشروع في تفسير وتبرير لكل ما يدعونا إليه وينادون به من مبادئي تحررية 0 ومع الإجتهاد في التنظير السياسي والدستوري بناء من منطلقات وأسس جديدة تحفظ للإنسان العربي كرامته وللشعوب العربية وحدتها وتماسكها0 نقول هذا حتى وإن بقيت الأنظمة الفاسدة تحارب من أجل البقاء والمعارضة الشريفة تحارب من إنهاء الإستبداد 0 وهناك فرق بين هذين المفهومين فالمعارضة تصارع من أجل حرية كل إنسان عربي في أن يصنع شخصيته بنفسه في ظل مذهبية متوازنة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا0 في حين المستبدين يصارعون من أجل بقاء الإنسان في ذيل القافلة0 ويبقى علينا أن نؤمن إيمانا كبيرا بأهمية التوازن الإقتصادي والإجتماعي لإستقرار وسلامة المشروع الديموقراطي مع أن المسألة الإقتصادية والإجتماعية لا تغدو أن تكون برنامج عمل في إتجاه الإهتمام بالفئات الإجتماعية ذات الدخل المحدود0 فهي لم ولن تكون فلسفته سياسية ولا تشكل نظاما سياسيا وإن إرتطبت به كعامل هام وأساسي من عوامل إستقراره و في هذه الحالة نسميه عدلا إجتماعيا0 ومع هذا فإننا نعتقد بأهمية العدل الإجتماعي كضمان هام من الضمانات الواقعية والسياسية اللازمة لثبات واستقرار الحرية السياسية وبهذه الضمانات الواقعية والسياسية تكون الحرية السياسية إيجابية في حمايتها للحرية الفردية التي هي لصيقة بالشخصية الإنسانية 0 فالديموقراطية التي استخدمت كسلاح من أسلحة الكفاح السياسي للدفاع عن الحقوق عند الإعتداء عليها أولإنتزاع هذه الحقوق عند إغتصابها 0 ومع هذا فإن الديموقراطية أو الحرية السياسية هي نظام لحكم يستند إلى ضمانات قانونية وواقعية معينة0