في أواسط الستينات من القرن الفائت، أصر جورج الزعني كعادته أن يطلق في شارع بلس (المقابل للجامعة الأمريكية) مقهى مختلفاً عن تلك التي كانت تملأ الشارع الثقافي والسياسي في بيروت فتحتضن سياسيين ومثقفين وأدباء وشعراء ذاع صيتهم في لبنان وأرجاء الوطن العربي. اختار جورج لذلك المطعم اسماً مميزاً أيضاً "اليسار" وحرص أن يكون له في ديكوره وجلساته طابعاً رومانطيقياً لجذب طلاب الجامعة الامريكية ممن كانوا يهربون من حمى النقاشات السياسية والثقافية في مطعم "فيصل" أو مقهى "الأنكل سام" أو غيرهما، وكان لصهره المحامي القيادي في حزب البعث آنذاك جبران مجدلاني دور في أن نرتاد مقهى جورج الزعني أحياناً ونبدأ بالتعرف على رجل مسكون بثلاث: بيروت والثقافة والإبداع… بل بيروت (منارة الثقافة العربية وموطن الإبداع) كما كان يقول… وحين اجتاحت الحرب العاصمة في أواسط السبعينات، وتم إغلاق معظم المطاعم والمقاهي في ذلك الشارع لتحل محلها مطاعم الوجبات السريعة والدليفري "المعاصرة"، رفض جورج الزعني أن يغادر شارع بلس (الذي أقام فيه قريته الجميلة "اليسار" المزدانة بلوحات كان يختارها من كان مغرماً بالإبداع في كل الفنون) أصر جورج بومها على أن يقيم على جدار الجامعة الأمريكية في بيروت معرض صور جديد فيه من الفن والصحافة والتصوير الكثير ليقول: "هنا بيروت" وبما كان يمكن اعتباره أول المعارض الجدارية في العاصمة اللبنانية. "عاشق بيروت" رفض أن يستسلم للحرب وأثارها، وللتصحر الثقافي وتداعياته، ولحصار الثقافة الأصيلة ونتائجه على يد غلاة الحرب والمال، فكان له في كل فصل من السنة معرضاً متنقلاً بين كل دور الثقافة في بيروت حاملاً في كل معرض فكرة جديدة، وأسلوبا جديداً، وإبداعا في رعاية الإبداع. كان ابن بيروت الوفي لرسالتها حريصا على أن لا يغيب حبه لمدينته والتزامه بوطنيته وتحسسه بجراح أمته عن معارضه، حيث كان يعتبر الفن رسالة وجسراً بين الإنسان والإنسان، وبين البشر وقضاياهم الإنسانية العادلة. لكنه لم يكن عرضه لأفكاره فجا ً في الأسلوب، مسطحاً في التعبير، بل كان يستخدم كل وسائل التجديد لنقل أفكاره، تارة بالورق المقوى، وأحيانا بالصور القديمة، دون أن ينسى فنجان القهوة والطربوش الأحمر في كل معرض كان يتحول معه إلى مقهى جميل يتداول رواده في شؤون الثقافة والسياسة وشجون الوطن…. لم يحضر مرة إلى "دار الندوة" إلا ومعه فكرة جميلة كروحه، أنيقة كطلته، جذابة كرؤيته، أو كانت معه دعوة لمعرض آخر يقيمه في الاونيسكو أو في جمعية الفنانين أو في حي من أحياء بيروت. ولعل في قرأتنا لاسماء بعض العناوين التي اختارها لمعارضه في (دار الندوة) (كجبران) و (يمام بيروت) و (بوش بلس) نكتشف، المدى الوطني والعمق الثقافي والالتزام القومي والانساني لهذا الرجل النحيل الذي تفتك فيه الامراض دون ان يستسلم لها. لم يكن لجورج الزعني في كل مشاريعه غاية إلاّ أن تبقى راية الثقافة في بيروت مرفوعة، وراية بيروت عالية في عالم الثقافة والإبداع…. كنت دائما أقول له ما علاقتك بالشاعر الكبير الراحل عمر الزعني، وكان يجيب ضاحكاً نحن "أولاد عم"، هو "اضحك الناس بشعره الساخر، وأنا أحاول أن ادخل الفرح إلى قلوب الناس بمعارض متميّزة…" الإبداع هو الذي جمع بين عمر الزعني الشاعر الشعبي الكبير، وجورج الزعني صاحب الأفكار الخارقة في عالم الثقافة والفن والجمال، والابداع هو موحد النفوس حين يرتقي بها فوق عالم البلادة والسطحية والتقليد.