إذ نتأمّل سرّ التّجسّد الإلهي، ومشيئة الرّبّ في الدّنوّ من الإنسان، ونغوص في عظمة المحبّة الإلهيّة، ترتسم لنا ملامح إنسانيّتنا الحقيقيّة المخلوقة على صورة الله ومثاله. ونقول ( ترتسم)، لأنّنا لم ندرك بعد بهاء خلقنا ولن ندركه إلّا باتّحادنا بيسوع المسيح، حين تصبح حياتنا حياته. وعندما نبلغ الوعي الّذي يرشدنا على الحالة الّتي خلقنا فيها الله، وتنكشف لنا صورتنا الّتي على صورته، سنرتفع حتماً ونرتقي ونتخلّى عن مغريات العالم وننتصر عليه. والحالة الّتي خلقنا الله عليها استدعت قوله: " هذا حسن جدّاً" (تك 31:1). وتؤكّد هذه الآية على الكمال الإنسانيّ الّذي أراده الله، إلّا أنّ الإنسان رفض الله وبالتّالي رفض هذا الكمال، وبحث عن كمال آخر فصله عن الحياة مع الله. ولئن كان الإنسان قيمة مقدّسة في عينيّ الرّبّ، ولئن ضلّ الإنسان عن الطّريق المؤدّي إلى الكمال الحقيقيّ، تصاغر الرّبّ واتّخذ صورة إنسان ليضعه على الطّريق المستقيم، ويعيد إليه هذه القيمة. وفي كلّ مرّة يعتقد الإنسان أنّه بإمكانه أن يفتخر بقيمته بعيداً عن الله، يواجه الهلاك الحتميّ. فقيمته من قيمة الله وإلّا لما أخلى الرّبّ ذاته واتّخذ صورة عبد. ( فيليبي 7،6:2). يقول القدّيس باسيليوس الكبير: " إنّ تدبير إلهنا ومُخلّصنا المختصّ بالإنسان هو دعوته للخروج من سقطته وإعادته من تغرّبه عن الله الّذي سبّبه له عصيانه، إلى شركة وثيقة مع الله". فالله يبحث دوماً عن الإنسان، على عكس ما يظنّ كثيرون، فيمضون حياتهم يبحثون عن الله في النّظريّات والفلسفات والشّرائع وتطبيقها. إلّا أنّ الله بتجسّده بات أقرب إلى الإنسان من ذاته، وبالتّالي لم يعد بحاجة للبحث عنه، بل هو في حاجة دائمة ومستمرّة لأن يحيا مع الله وبالله. لقد دخل الرّبّ تاريخ البشر ليدلّهم على الطّريق الأبلغ والأكمل ليصنعوا حياتهم وتاريخهم برفقته، لا بحسب انتصاراتهم الخائبة ومسيرتهم الّتي يقودها الكبرياء. فتاريخ البشريّة الحقيقيّ بدأ يوم هتف الملائكة في السّماء مسبّحين" المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة". ( لوقا 14:2). وكلّ ما سبق من تاريخ الإنسانيّة صفحات ناقصة، تحتمل الخطأ والصّواب، وخطوات متعثّرة، تسير نحو الحقيقة ولا تبلغها.