نحتاج إلى قرون عديدة من التّأمّل كي نفهم سرّ التّجسّد الإلهيّ، بل كي نتلمّس عظمة الفكر الإلهي وجلالة محبّته الغامرة. قد نمرّ مرور الكرام على سرّ التّجسّد من خلال إحياء طقوس العيد، إلّا أنّ الولوج فيه مسيرة حياة نختبر فيها معنى وأهمّيّة الخلق الجديد في المسيح. يقول القدّيس إيريناوس: " ابن الله العليّ الّذي هو أبو الكلّ قد حقّق في نفسه التّجسد وأصهر بذلك جنساً جديداً". وبتحقيق الرّبّ في نفسه التّجسّد دخل في تفاصيل الإنسان وحياته، متّحداً بالبشريّة ليخلقها من جديد. يبرز هذا التّجدّد على جميع المستويات الإنسانيّة: الفكريّة والجسديّة والنّفسيّة والرّوحيّة. فلو تحدّثنا عن الفكر الجديد وأوغلنا في نموّه المستمدّ من الحكمة الإلهيّة، تخلّينا عن كلّ الموروثات الّتي حملناها والّتي فرضت وتفرض نفسها علينا وتتسرّب إلى أعماقنا العقليّة والفكريّة. ولو تكلّمنا عن الجسد، وَعَيْنا قدسيّته وقيمته، فبتجسّد الرّبّ انتفت كلّ المفاهيم الّتي ترذل الجسد وتحقّره معتبرة إيّاه مركزاً للشّرور. ولو لُجنا عمق النّفس الإنسانيّة وتأمّلنا تركيبة الإنسان المعقّدة والمليئة بالتّناقضات، وعدنا وتأمّلنا سلام المسيح الحالّ فيها، تيقّنا عظمة التّجسّد. ولو سبرنا أغوار الرّوح واكتشفنا الحياة الحقيقيّة بالمسيح، فهمنا أنّ كلّ العلوم والفلسفات والنّظريّات الّتي حاولت البحث في الرّوح الإنسانيّة بقيت معلّقة ومبدئيّة وناقصة لأنّه بتجسّد المسيح الحقيقة، تكمل كلّ الحقائق. الله صار جسداً وحلّ بيننا ليهزّ كلّ الثّوابت الحاضرة في حياتنا، وليحرّك مياهنا الرّاكدة، ويحرّرنا من كلّ القيود والمسلّمات الّتي سجنّا أنفسنا فيها وخضعنا لها فاستعبدتنا. التّجسّد الإلهي في عمقه اللّاهوتي، دعوة للثّورة على كلّ المفاهيم الخارجة عن علاقة الله بالإنسان. كما أنّه الحقيقة السّاطعة كالشّمس والمدويّة في ضمير الإنسانيّة. تلك هي الحقيقة، وهي أنّ الله أتى إلى العالم ليعيش مع الإنسان إلى الأبد. " لما حلّ ملء الزّمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الّذين تحت النّاموس، لننال التبني." ( غلاطية 5،4:4)