لعلّني هنا أكثر من التفكير بصوت مرتفع، فأنسى أنّني في حضرة جمع كبير من الناس، أعرف عن كلّ واحد منهم القليل، ويعرفون عنّي القليل. لعلّ أكثرنا يقع في هذا الفخ، فينشر صورًا ويكتب أخبارًا كأنّه في غرفة النوم أو محوط بخاصّته التي لا يخجله أن تراه في أكثر أوقاته تشظيًّا وضياعًا، أو ابتهاجًا مفرقعًا. كان الكاتب قبل عصر التواصل هذا يشير إلى القرّاء، معاتبًا أو ناصحًا، ساخطًا أو مثنيًا، من غير خشية أن يردّ عليه قرّاؤه معاتبين أو ناصحين، ساخطين أو مثنيين. اليوم كلّ منّا جسد فوق طاولة التشريح، لا ينتظر المشرط ُ موتًا أكيدًا كي يبدأ عمله. هنا، أنا قارئة كاتبة ناقدة عالمة… وسواي كذلك. وحين تتساوى معارف الناس فإلى من نلجأ من الحكماء الذين يتأنّون قبل الكتابة والنشر؟ نحن هنا نستعجل الكتابة ونستعجل القراءة، تكرج أصابعنا على لوحة المفاتيح لنسبق غيرنا إلى التعليق على حدث، أو نهرع لبثّ عواطفنا من دون أن ننتبه إلى أنّنا نفرض إيقاعنا على قارئ ليس مزاجه الآن أن يقرأ. والقارئ هو أنا وأنت وأنتم وأنتنّ… أيّ من دون أن يكون لهذه الصفة مدلول دونيّ يجعل صاحبها أقلّ شأنًا من الكاتب، الكاتب الذي يفني عمره باحثًا عمّن يجيد "قراءته". تجذبني الكتابة عن علاقتي بعالم التواصل هذا، غير أنّني قد أكتب عشرات الكتب قبل أن أفي هذا العالم حقّه. هذا العالم الذي صار حقيقيًّا بشكل مخيف، لكنّه ليس كذلك، مهما حاولنا أن نهدّئ من روعنا كي لا نخسر آخر حصوننا الآمنة. هاتفي الخلويّ القديم ليس فيه أيّ ميزة من ميزات التواصل المتاحة، فلا واتس آب ولا فايبر ولا إنستغرام، ولا إنترنت ولا كاميرا… مجرّد هاتف للحالات الطارئة… كأنّني أتمسّك بآخر فسحة من النأي بالنفس عن تواصل اجتماعيّ لم أسعَ إليه يومًا، ولم أبرع فيه. صار هذا العالم طبعًا من نسغ عالمنا ومن دونه ما يقرّبنا من موت ما. ولكن ما دمنا نتابع تساؤلنا حوله وعنه، فكأنّنا ما زلنا في طور التشكيك بدوره ونتائجه. ولا أعتقد أنّ اختراعات سابقة أثارت مثل هذا الجدل، ربّما لأنّها كانت دائمًا تخدم الإنسان من دون أن تتوغّل في رأسه وقلبه وتتلاعب بأعصابه ونمط حياته وإيقاع تنفّسه ونظام أكله ودوام نومه وراحته… لا يهدف هدير هذه الأفكار إلى إيصال رسائل إلى شخص أو أشخاص… هو مجرّد غوص في عالم داخليّ وجد نفسه في لحظة معيّنة مفتوحًا على الخارج، ومعروضًا على شاشةٍ علنيّة… ولا يريد سوى أن يستعيد سكينته!