كيف السبيل إلي قراءة ليل أوزير؟ سؤال أرّقني فحاولت الإجابة عليه بأن أعدي منه وأسافر في فضائه بقلب العاشق وأمارة الباحث وعنفوان المواطن مع أن المتصوفة ينبهون مرتحلا مثلي إلي أنه: «كلما سافرت أبعد عرفت أقل». للوهلة الأولي يبدو عالم هذه الرواية مهمشا متشظيا تسوده الفوضي لا تلتئم فيه الوقائع إلا لتتفرق والأشياء تنمو علي نحو عشوائي رغم ما في البناء من دقة وإحكام واتساق. إنه عالم معاد تمثيله طبقا لرؤية احتجاجية ما يصيره نصا حداثيا متميزا بالدينامية والتوالد والانفتاح أنجزه الروائي المصري سعد القرش. خطاب التاريخ والموروث والتشكيل ونبدأ بخطاب التاريخ الذي يتواتر كإطار لهذا العمل دون الوقوع في شراك الإسقاط والتعسف اعتبارا من أنه لا يمكن أن يدرك إلا مرويا علي ما يقول بول ريكير وفيما ليس من البساطة اعتبار ليل أوزير كتعبير روائي لفترة عما جري في الماضي المصري وتحديدا ما بين دخول الحملة الفرنسية مصر نهاية القرن الثامن عشر حتي عشرينات القرن الذي يليه أو اعتبار صاحب هذا العمل كعارض لهذه الفترة فيما هو أقرب إلي رأي يتجاوز ما تمثله. إنه التقاط الوقائع الدالة في بدء مسيرة الحركة الوطنية المصرية ورصد امتداداتها وتعالقاتها من أجل أن يمنح الذاكرة أسرار غيابها أو هذيانها انطفاءها أو تلاشيها أو حتي بياضها واستحالتها ضمن لعبة الانكشاف والخفاء كمحاولة لترتيب ما تبعثر من شظايا وطن صعب لا يتعب من ليله الطويل ولم يعد يبقي منه إلا «حلما في الكري أو خلسة المختلس». ورغم تسليط سعد القرش في هذه الرواية الضوء علي حقبة مضت إلا أن التاريخ لديه يبدأ من المستقبل أي من القلق علي الآتي ذلك أنه يتعامل مع التاريخ انطلاقا من «النحن» الموجودة في «الآن» والمتجذرة في «الهنا». إنه لا يستحضر أرواحا ميتة ولا زمنا كان لأن عملية الاستحضار تتم بالنسبة لما هو غائب وهل الزمن الماضي غائباً؟ هل الشخصيات التاريخية غائبة؟ إن مثل هذا الغياب لا يمكن أن يتحقق إلا بغياب الذاكرة. ذاكرة الفرد أو ذاكرة الجماعة التي هي الموروث والتاريخ والوجدان الشعبي بكل محمولاته ومخزوناته ما يشير إلي أن الماضي لدي هذا الروائي لا يمضي طالما حضوره رهن بحضورنا لأنه موجود فينا وبنا ومن خلالنا إنه «نحن» في امتدادها إلي الخلف. وجنب التاريخ يتشظي الاشتغال بالموروث يلبد في جسد النص علي هيئة علامات وإشارات من معتقدات ومعارف شعبية وعادات وتقاليد: شرب جعران مسحوق مخلوط بماء لحمل ذكر. جرح شجرة جميز ورشف لبنها للخصوبة، صب البيض فوق عنق المرأة تجنب دخول الحائض أو حليق الشعر علي العروسين قطع أذن أي من الإخوة في الرضاع ليتم زواجهما، حمل الوليد لاسم من مات في العائلة للتفاؤل، نبوءة العرافة، النداهة، الاعتقاد في الأعداد، مواليد السيد البدوي في طنطا. علي أن هذا الموروث لا يظهر علي سطح الصورة ولكن في عمقها فهو ذاكرة اليومي ووجدانه ولا وعيه الذي يسكن ليل أوزير وصاحبها فيقاسهما الكتابة عن همومها الآنية والتاريخية بدءا من المعيش والمحسوس، حتي يغوص في جسد الذاكرة والوجدان. ومع التاريخ والموروث يجيء خطاب التشكيل خاصة ما يتعلق بالمكان باعتباره قطب الرحي وخيطها الناسج إنه متشظ ومتسع ومرتبط بطبقات النص وخاضع في معاينته لتمرس قصي وفاتن من قبل صاحبه. ولعل ما يجعل من حديث الأمكنة في ليل أوزير حديثا مخصوصا هو اشتغاله البصري حين يعمد إلي تشبيع النظر بالانفتاح علي الألوان والزخرفة والنمنمة والتعشيق سواء كان المكان مقهي، دارا، نهرا، غيطا، شرفة، حارة، غرفة، زريبة، بوابة، مسجدا، سورا، حديقة، مدينة، سطحا، مصطبة، أو جبانة.. ينسجها سعد القرش في هيئة صاعدة هابطة، مشتبكة ومتقاطعة متلفة وموصولة كأنها مخطوط رحيل. كل مكان هنا تسيل معالمه، وتتراكم أزمنته، تأخذ لحظاتها برقاب بعضها، فتتعاشق مع ذهاب الشتاء وتفتح نوار البرسيم، والسعي للرزق مع شروق الشمس، والصباح الرباح، والأذان، والليل كمأوي، ونضج القمح والشعير، والكتان في آخر بشنس وأول بؤونة، ووقت الفيضان.. وذاك تواصل يضفي علي هذا المكان أو ذاك الزمن طابعا إنسانيا حين يمتزج بالطبيعة والخصوبة فتتوه بينهم الحدود. وفي أهاب التاريخ والموروث والتشكيل يتراءي خطاب الحلم كحاجة إلي الامتلاء الحدسي أو كمسافة بين الحالة وإشكالية التعبير عنها، طالما الحلم حراً والواقع مقيداً وكمقام للتطهر وليس هذيانا باذخا، أو مجرد بارقة يفرضها اللا وعي علي الخيال بل ملاحقة للزمن كفعل توتر وقلق وقاعدة يقين يحمي الذاكرة من يقظتها المتواصلة، ويعيد استرجاع إنتاجها ويشيلها من الوجود المعطل ويؤمن امتدادها. الحلم هو هاجس ليل أوزير وجدواه حين يؤطر المسافة بين الوجود وإشكالية الوجود في شبكة من الاحتمالات. البناء التعبيري يجلو هذه الخطابات بناء لغوياً ينهض علي اختراق وعيين: وعي يرتجل تجربة الذاكرة بملفوظات ودوال لغوية مستعادة، وآخر يعكس لسانيا تجارب معقدة تكشف الكائن المصري إلي نفسه. إنها اللغة المشاركة حين تحلق بوعي معجمي يستوصي حقلا من الدوال، وتترجمها كلمات تبث شجنا يتغلغل ويستقر دون أن يري. وبنادي هنا بالقول إن ليل أوزير ليست قابلة لتطبيق مقولة مقابلة الفصيح بالعامي ما دامت ممارستها الكتابية تغتني وتتجدد وتتعدد وتتهجن بكليهما في آن. وليلنا في ذلك ما ينبهنا إليه عب دالقاهر الجرجاني في دلائل إعجازه حين يذكر: «إن الفصاحة لا تكون في أفراد الكلمات وأنها إنما تكون فيها إذا ضم بعضها إلي بعض: فإنا نري اللفظة تكون في غاية الفصاحة في موضع ونراها بعينها فيما لا يحصي من المواضع وليس فيها من الفصاحة قليل ولا كثير وإنما كان ذلك لأن المزية التي من أجلها نصف اللفظ في شأنها هذا بأنه فصيح رمزية تحدث من بعد أن لا تكون وتظهر في الكلم من بعد أن يدخلها النظم، وهذا شيء إن أنت طلبة فيها وقد جئت بها أفرادا، لم ترم فيها نظما ولم تحدث لها تأليفا طلبت محالا». ففي ليل أوزير هناك العبارات الضاربة في فصحاها: «يكبر مثل فيضان..» «رصاصة فرّقت الصمت..» «امتصل الظلام الرجاء والأرواح...» «يسري الهسيس...» وهناك المفردات والتعابير العامية المعتّقة: «طاجن الفخار، يسحب الأنفاس، وحْل السكك، ولا حس ولا خبر، اختشي، خلاني، خش الزريبة، تخاريف، تشفي، اعملي لك همة، احمي الفرن، نار الكانون، الغشيم، صاحبة واجب، الزمام، كوز الذرة، الطاقية، الكلابة، الغيطان، الدكة، البنت العفية، يلبد الواحد منهم، من طلعة الشمس، الملقف الخشبي، كل نبق بشنس، غراب البين، الدريس، نقلة سباخ، الحلاليف، المشعوف، الدقشوم، المزش، الخرا، فرحانة يا نظري، رحمة ونور، منخس البغل، الخص، ما أعرف كوعي من بوعي، عفاريت الدنيا قدام عيني، عيلة وغلطت، ربنا يخلصك من وشي، فرس النبي، عقبي لكل الحبايب، من الباب للطاق، المراكيب، الطبلية، العيشة مرار، التربي، الشقارف، اختشي، الجميز الباط، داخت، الجدع، يحوش، طولها قد عرضها، الموكوس، الفواعلية، الدار، الصباحية، الشعر الناشف، لبوهم بالفرقلة، وشك ولا القمر، التلفيعة، المخبول، التجريدة، جبر الخاطر، عيب علي شيبتي، المربوط..». وهناك كذلك ما بين الفصيح والعامي: «شايب ويتصابي، يدك ملزقة، تحشم يا رجل، صار أكرش، الفاجرة، الغاوي يبين كرامة...». وهناك مفردات فصحي: «اليحموم، العبوس، السياج، هدها الإعياء، الأزيز، المفارم، رفع سبابتيه، يتحسس فوديه..». وفي التقدير أن سعد القرش كان متوجسا من هذه المقابلة بين الفصيح والعامي، فتحرك فوقها بكثير من الحيطة، وهو ما حفزه لأن يعمد الي تكثيف عبارته، وتوظيف لتعددية اللغة، فيه كثير من الاجتهاد نحو تخصيب الدلالة وتوسيع أرجائها بما يجيز تواصلها كحقل للتلفظ وليس إلي حقل اللغة، إنها الوسيط بين النص ومحيطه كنقطة تتقاطع مع «الكلمات» الأخري فصيحة أو عامية. علي أننا لا نكون قد وفينا البناء التعبيري لهذه الرواية حقه، إذا وقفنا به عند مستواه اللغوي، دون البلاغي. ويلفت الانتباه هنا استخدام سعد القرش أسلوبين بلاغيين هما الاستعارة، والرجع: تعمل الاستعارة في هذا العمل علي المحور الاستبدالي وتأتي غريبة عن المنظومة الدلالية للجملة، فعندما يقول الرواي «طق المشيب» في وصفه لكبر سن عامر البطل يقف القارئ خاصة عند الفعل «طق»: إنه علامة لغوية لا تتناسق دلالتها مع دلالات العلامة الأخري «المشيب» فالنواة الدلالية للعلامة «طق» تنتمي إلي نمط القوة فيما تنتسب العلامة التالية «المشيب» إلي نمط دلالي مختلف هو الضعف والعجز، وتأتي الصورة من هذا الاختلاف. أما الرجع فله تركيب التصادي ويتم بربط الزمن بمواجيد أهل القرية فذهاب الشتاء يستتبعه تفتح نوار البرسيم، وشروق الشمس يتراءي مع السعي للرزق، والليل للمأوي، والأذان للتنبيه وآخر بشنس وأول بؤونة لنضج القمح والشعير، وأمشير لتقلب المزاج، ووقت الفيضان للاستعداد. المتن الحكائي لنخفف من استعجالنا مقاربة هذا العمل بحديث عن متنة الحكائي الذي يصور عالم قرية مصرية، هي قرية أوزير، وسيدها هو عامر كائن نصي ينتمي إلي عائلة يهلك منها عزيز كل خمسين سنة، وجده عمران هو مؤسسها، وبحجة الدفاع عنه يأتيه منصور القهوجي وابنه خليفة ليستلبا مسئولياته في الحفاظ علي القرية وأهلها ومعهم الغجر وبعض الأعراب والغرباء منهم موران الفرنسي وكارلو البندقي. ينجب عامر ولديه يحيي وإدريس من زوجته صفية المتوفاة وحين يشتد عسف منصور ومن بعده ولده خليفة، يلوذ يحيي بالسلف الصالح فيما يتولي إدريس منطق المقاومة. إن عالم الرواية مهشم متشظ تسوده الفوضي لا تلتئم فيه الوقائع إلا لتتفرق رغم ما في بنائه من دقة وإحكام واتساق، إنه عالم معاد تمثيله طبقا لرؤية احتجاجية ما يصيرها نصا حداثيا متميزا بالدينامية والتوالد والانفتاح أنجزه روائي مصري شاب ويتم إنجازه قارئ ذكي من خلال ملئة الفراغ واستصضار الشاهد علي الغائب واستنطاق المكتوب واستجوابه ومحاورته. يفتتح سعد القرش نصه باستهلا أقرب إلي مقدمة طللية تشرع الباب علي ما سوف يأتي ويجمع عنوانه بين الإيحاء ودقة المطابقة وينتثر متنه علي هيئة شجرية. الشجرة الأم هي عامر، وأغصانها أربعون فصلا بعناوين رقمية، خلا الفصل الأول الذي أعطاه عنوان «منصور» والفصل السادس والعشرين بعوان «إدريس». وفي طوايا المتن تتبدي نصوص موازية من أهازيج الفساد والشعر القديم، ووثائق حول عمرو بن العاص وعبدالملك بن مروان والمأمون والوالي مزاحم بن خاقان، ومعها تتواصل بهجة الحياة في رمزية أجساد مسكونة بالرغبة والتوقف إلي الجديد يستشهد بها سعد القرش كدليل مضاف لكونها بقول ابن الخطيب «من الشجرة بمنزلة النسيم الذي يحرك عذبات أفنانها». هذا عمل يخط صدفة في ملامسة الأزمنة الثلاثة: الماضي، الحاضر، والمستقبل فيما الخيال فيه إحلال للواقع بغية تلقيه وإدراكه. وهنا ينعقد سؤال ماثل: هل يدعي ليل أوزير شيئا لو قالت إن محتواها هو في فقه سؤال الحرية؟ وذاك سؤال يمتحن صدق نوايانا، بقدر ما يفضح مزاعمنا الحالة في إرادة التحرير والمعرفة إنه الرهان الواجب علي النص الروائي أن يأخذ به: الإطلال علي الحاضر والمستقبل عبر ماضيهما. لكن المسألة هنا ليست مجرد ثنائيات ناجزة وإنما ما يقع بينهما من تفاعل، تجاذب، تواطؤ، وتناكر، وتلك كتابة عاشقة: الوعي بها مكابدة للخروج من عكارة الاستبداد ولظاه. ذلك إنه مع قراءة نص سعد القرش يقع اجتثاث عروقنا من موضع تربتها القديمة تماما كما اقتلاع المولود من رحم أمه، وزرعه في تربة لا تقل خصبا وحياة، هي تربة الذاكرة وهي تسألها، إسهاما في إعادة صوغ أسئلة الراهن والقادم، من خلال مقدرة إيحائية، ألمحت وهيأت وأشارت: قد تتحول إلي ما يرتد كاهلا نحو طفولته إلي ما عاش يخافه ويرتابه، إلي ما يتمناه علي صعيد التحقق الإنساني ويحلمه بين اليقظة والمنام، في زمن متحول نحو الأفول. وهل تطمح الكتابة إلي أبعد من هذا النصر علي أحط الاتهامات وفي أولها الاستبداد؟ نعم، ليكن كل شيء دفعة واحدة، فالأهم أن نصهل بزيفنا كي نكون بعد السفاح في بداية المبادرة.