من ثوبِها المُطرّزِ على طريقةِ بَدْوِ الجُنوب، كانت تنهمرُ روائحُ الأسفارِ القديمة. قالت إنَّ اسمَها "رُوثْ". لم أصدِّقْ. خرجَت من نفسِها في ذلكَ المساءِ العاديّ. تركَت جلدَها على الأريكةِ وانطلقَت حافيةً، بلا ظلٍّ، إلى اللّيمونةِ القزَمَةِ المزروعةِ في إسمنتِ السّطح. هرولَ القطُّ وظلُّهُ خلفَها. هناكَ بكَتْ، حينَ انتبهت إلى أنَّ البيّاراتِ والحقولَ هاجرَتْ إلى سطحِ المدينة. كانتْ تقفزُ مثلَ نابضٍ مشدودٍ، فيهروُلُ قطُّها الكهلُ وراءَها. لم تحتَمِل الجلوسَ في مركزِ السجّادةِ الفارسيّة والدّوسِ على أطرافِها. وقالت إنَّها تعثّرت باسمِها في خزانةِ جدّتِها فاكتست بِه. وقالت إنَّ اسمَها "ناديا"**. لم أُصدّقْ. ثمَّ، حينَ اشتدَّ ضوءُ المصباحِ في الزّاويةِ البعيدةِ، حملَتْ وجهَها في راحتَيْها، وصبّتْ ثلاثَ كؤوسٍ من النَّبيذِ المعتَّقِ المقطوفِ من كرومِ سليمان؛ واحدةً لي، واحدةً للمرأةِ الواقفةِ على شجرةِ اللَّيْمون وواحدةً للقطِّ الأجعدِ ذي اللّكنةِ الرّوسيّة والرّموشِ الشّائبة. كشفَت لي أنّهُ يعاقرُ الخمرةَ والتّحدِّيَ منذُ قرنَيْن. سقطَتْ دموعُها فأضاءَت الكؤوس. رأينا نورًا مالحًا على نورٍ مِزٍّ. تمتمَتْ: سيثملُ اللّيلةَ أيضًا ويخرجُ للعراكِ بينَ حاوياتِ القُمامة. وأخشى أن تكونَ هذه جولتَهُ الأخيرة. ها هو يخرجُ ويموءُ: "ناتاليا، ناتاليا"***. مدّتْ يدَها لتمسيدِه، فقبضَتْ على حفنةٍ من الهواءَ الثّقيل. لأنَّ بوشكين انزلقَ، زمجرَ، قفزَ على منضدةٍ أضيقَ منه، ثمّ ربضَ بيننا وبينَ المصباحِ، وأشعلَ ظلَّهُ الشّاسع على مدينةِ أوديسّا.**** **** إشارات: **** *ألكسندر بوشكين، أمير شعراء روسيا في القرن التاسع عشر، من طبقة النبلاء، أمُّه أفريقية، ثارَ على الظّلم وسطوةِ الطبقة الحاكمة وتعرّض للنفي والرّقابة، وعبّرَ عن احترامِه للحضارة العربية-الإسلامية. وقُتل في مبارزة وهو في الثامنة والثلاثين من العمر. **ناديا، أو ناديجدا، هي والدة بوشكين. وهي ابنة أبرام غانيبال، الذي سيقَ إلى روسيا عبدًا، ثمَّ شغل وظيفةَ مهندس في بلاط القيصر. (من أصلٍ أفريقي، الكاميرون اليوم). ***ناتاليا هي زوجة بوشكين، التي دخل في المبارزة بسببها. ****مدينة أوديسّا: إليها نُفي بوشكين، وهناك كتب أفضل أعماله.