الدكتورة نيفين عبد الخالق ، أستاذة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة ، واحدة من أبرز المتخصصات في الفكر السياسي الإسلامي في مصر والعالم الإسلامي وجدت أن الأمة توقفت عن الإبداع الذاتي والحضاري وأن آفتها الحقيقية في غياب الإصلاح في شتى ومختلف المجالات فكرست حياتها لقضية الإصلاح ، التي أخذت جل وقتها وجهدها من خلال بحوثها ومحاضراتها ولقاءاتها وسفرياتها وحضورها المؤتمرات الدولية التي تناقش قضايا الإصلاح والفكر الإسلامي والأمة الإسلامية. لكنها أولا وأخيرا الزوجة والأم ومربية الأجيال التي تعرف حق الزوجية وحق الأمومة وحق العمل فوطنت نفسها أن تكون حيثما أراد الله ، وملكت من الإرادة ما جعلها تنسحب من الحياة العامة لصالح بيتها وأولادها فإذا ما قامت بواجبها نحوهم عادت لنشاطها العام وخدمة أمتها مرة أخرى . وبلغة تجمع بين العذوبة والدفء والعمق والثراء تحدثت الدكتورة نيفين عبد الخالق لموقع " شموس نيوز " حول نشأتها ودراستها وأساتذتها ، وقضايا الإصلاح ، والفكر السياسي الإسلامي ، وإشكالية العلاقة بين الدين والسياسة ، والتعليم الجامعي ، والاتهامات التي توجه للإسلام والمسلمين.. وإلى نص الحوار: النشأة والتربية بداية نود التعرف عليك من قريب ؟ شهدت حقبة ثورة يوليو ميلادي وطفولتي ، وكنت أحفظ أهداف الثورة الست : القضاء على الاستعمار وأعوانه القضاء على الإقطاع القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم إقامة حياة ديمقراطية سليمة إنشاء جيش وطني تحقيق العدالة الاجتماعية . ونشأت في ظل أسرة محافظة قوامها الوالد والوالدة وأربع بنات وولد وكنت أكبر الأبناء فيها. ربياني أبواي على الاستقامة وحب العلم والتعلم ، وحباني الله منذ البداية بأساتذة عظام وقت أن كانت المدرسة تقوم بواجبها كمدرسة ؛ فها هي أبلة فاطمة بهجت في المرحلة الابتدائية كانت تعلمنا النظافة وتلزمنا قبل مغادرة المدرسة بغسل أيدينا . وفي مدرسة الأورمان الإعدادية النموذجية كان الأستاذ إدريس أستاذ اللغة العربية يدخل علينا الفصل ببدلة كاملة ويتحدث بالفصحى ويكتب على السبورة بخط رائع. وكذلك الأستاذة كاميليا عبيد تلبس الجاكت بالأكمام والحذاء المقفول وكلها وقار وحشمة وجدية والتزام وهكذا مدرسو باقي المواد . وفي الأورمان الثانوية تتلمذت في اللغة العربية على يد الأستاذ جابر قميحة قبل أن يحصل على الدكتوراة ولا زالت آثار تقديري للغة العربية بادية على حتى الآن . كان الإخلاص مطلبي الرئيسي ، فلم أكن أذاكر كي أدخل الامتحان بل كنت أطلب العلم والمعرفة لذاتهما وأحاول أن أستفيد مما يقوله الأستاذ في الحصة وفي برامج التليفزيون التعليمية وكذلك الكتاب المدرسي والكتاب الخارجي وكان حبي للغات شديد واحترامي للغة العربية كبير ولذلك أنعم الله على وكنت ضمن الخمسة الأوائل في الثانوية العامة أدبي على مستوى الجمهورية . وأذكر بعد أن استضافنا التليفزيون عدت وأبي في سيارتنا الصغيرة فوجدنا سكان الحي يقفون على جانبي الطريق في استقبالنا بالتهاني والزغاريد ، وقد كتب أحد الجيران الأفاضل قصيدة من الشعر في والدي ووقف يلقيها ومطلعها : نعم البنات بنات عبد الخالق . في ذلك الوقت المبكر كان لدي شوق شديد للإسلاميات وكنت أتوق للالتحاق بجامعة الأزهر ولكننا نسكن بجوار حديقة الأورمان وأمامنا جامعة القاهرة ناهيك عن مجموعي الكبير ، فاستشار أبي مجموعة من الأساتذة فأشاروا عليه أن يدخلني كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية أو اللغة العربية لكن كانت دراسة العلوم السياسة تجتذبني فذهبت لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ودخلت مكتبتها وكان لها رونق وبهاء فقلت لأبي سأدخل كلية الاقتصاد فقال لي هل تريدين أن تكوني سفيرة فقمت بإخراج كتاب "مبادىء العلوم السياسية" للدكتور بطرس غالي والدكتور محمود خيري عيسى من حقيبتي وأخرجت قلما وكتبت اسمي في الفراغ الذي يتوسط اسمي المؤلفين وقلت لأبي : لا ، ولكن لأصبح أستاذة في الكلية وأؤلف كتابا مثل هذا الكتاب. دخلت الكلية واشتركت في الجماعة الفنية وكنا نغني في حفلات الكلية وأذكر أنني غنيت أغنية فيروز "زهرة المدائن" وكان مطلعها :" لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي .. يا بهية المساكن .. يا زهرة المدائن .. يا قدس" . كانت مرحلة الجامعة في السبعينيات وكانت فترة حافلة بالمتغيرات حيث شهدنا انتصار أكتوبر بخلاف فترة المرحلة الإعدادية و الثانوية التي شهدنا فيها نكسة 1967 ما تلاها من حرب الاستنزاف. كان زوجي رحمه الله أستاذاً بالجامعة وكان من أوائل الثانوية العامة أيضا لكن في السودان لأن والده في هذه الفترة كان يعمل مهندسا للري في السودان. تزوجنا وحصلنا على الماجستير سويا والدكتوراة سويا ومن النوادر أنني كنت دائمة أسبقه حيث حصلت على الماجستير قبله وكذلك الدكتوراة رغم أنه كان يساعدني . رزقنا الله بأربعة أبناء بنتين وولدين وأنا الآن جدة بفضل الله عز وجل . طالت فترة بعدك عن الأضواء وزهدك في الظهور في وسائل الإعلام .. ما السبب وراء ذلك؟ أذكر مقولة لأبي العباس المرسي رضي الله عنه يقول فيها : " إذا أحبت نفسك الظهور فأنت عبد الظهور وإذا أحبت نفسك الخفاء فأنت عبد الخفاء ولكن وطن نفسك حيثما أرادك الله فإذا أراد منك الظهور ظهرت وإذا أراد منك الخفاء فعلت " . بعد أن قطعت شوطا في النجاح والتقدم على المستوى الأسري والعلمي ، الخاص والعام ، وأصبحت في مرحلة منتصف العمر وقفت مع نفسي وقفة مراجعة ، وشعرت أنني أخذت كثيرا من أسرتي ووالدي ووالدتي وكذلك من والد ووالدة زوجي . وأتذكر الآن والدي وقد أنجبنا وهو في سن كبيرة كيف كان دائم الأرق يستيقظ فيجدني أذاكر دروسي يجلس بجواري يريد أن يحدثني ويهم بذلك لكن حينما يجدني مشغولة عنه يصمت .. الآن أراجع هذه اللحظات بعد أن انتقل لرحاب الله فأقول يا ليتني كنت كلمت أبي . وجدت أن زوجي الذي وقف بجانبي يمر بنفس المرحلة مرحلة منتصف العمر وكذلك أولادي وبناتي يمرون بمرحلة هامة في حياتهم.. الكل في حاجة إلى وجودي بجانبهم ، وكما لم يبخل علي أحد من عائلتي بالعطاء حان رد الجميل وحان وقت الإعطاء . فقررت أن أتريث قليلا وأن أعطي الجميع. أتذكر الآن كيف وقف والد ووالدة زوجي بجانبي في بداية حياتنا الزوجية وكنت قد أنجبت ابنتي الكبرى وأنا مشغولة بجمع المادة العلمية لإعداد رسالتي للدكتوراة، وأحتاج إلى الذهاب إلى المكتبات وتمضية وقتاً طويلاً خارج المنزل، وطفلتي بحاجة إلى وجودي بجانبها، وعجزت عن التوفيق بينها وبين هذا العمل، فقررت أن أرجح كفة ابنتي وأجلس في البيت وأتخلى عن طموحي للدكتوراة. فقلت ذلك لزوجي فقال لي اجلسي في البيت كما شئت لكن بعد الدكتوراة أما قبلها فلا ، لأن والدك أخذ على العهد بذلك ، وحكى لوالديه هذا الأمر فجاءا خصيصا وقالا بماذا تتحججين ؟ بهذه البنت هي ابنتنا وسنأخذها معنا الفترة التي تكفيكِ لجمع المادة العلمية.. أما أنت فعليك واجب ورسالة لابد من تأديتها. وقد قمت بهذا الواجب وخرجت أجيالاً ولكنني شعرت بأنني آخذ والكل يعطيني بسخاء فأردت أن أعطي من حولي خاصة أسرتي حيث كنت كلما حققت نجاحا في العمل أشعر بأن فيه ثمن كبير يدفعه من هم في أشد الاحتياج إلى وجودي بجانبهم. والحمد لله خلال فترة الكمون هذه كان أولادي في مرحلة عمرية شديدة الحساسية فالبنات في المرحلة ما قبل الجامعية والبنين في نهاية المرحلة الإعدادية ، وكان لابد من التواجد المستمر معهم والحمد لله انتهت هذه المرحلة بنجاح، وأصبحت الآن أستشيرهم وأجد عندهم من النضج والرأي ما يسعدني ويقر عيني . من ناحية أخرى ، هزة منتصف العمر ، كما أسميها ، جعلتني أفكر وأراجع نفسي وأقول : لقد عملت للدنيا كثيرا فأين العمل لله؟ أين القرب من الله ؟ و هذه ليست دعوة للانسحاب من الحياة العامة ولا يمكن تعميم حالة واحدة على جميع الحالات لأن الظروف والأحوال تختلف من شخص لآخر ومن بيئة لأخرى ، ولكن بالنسبة للمرأة على وجه الخصوص لابد من نوع من الآلية المرنة التي تتيح لها الانسحاب والعودة ، الظهور والكمون . إنني لم أبتعد عن طلبتي وتلامذتي وكنت محظوظة لأنني غير مرتبطة بوظيفة تدفعني إلى تقديم الاستقالة ، ولكن ابتعدت عن الظهور الإعلامي والأنشطة وفعاليات الندوات والمؤتمرات لأن الأستاذ الجامعي لديه من الأنشطة ما يستهلك أكثر من 24 ساعة . هذه الآلية المرنة مهمة جدا في مسألة عمل المرأة ؛ حينما يحتاجها البيت تفعل وحينما يحتاجها العمل تفعل . وفي هذا الشأن أتذكر جيدا الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر السابق وكنت أحضر مؤتمرا للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية وسئل عن هذه القضية ( المرأة والعمل ) فقال يرحمه الله : المرأة تعمل إذا احتاجت العمل أو إذا احتاجها العمل . من هم أبرز الأساتذة الذين تأثرت بهم ، وما جوانب هذا التأثر ؟ وإلى أي حد انعكست رؤاهم عليك وعلى جيلنا الحاضر ؟ تأثرت بالأستاذ جابر قميحة ، أستاذ اللغة العربية ذو الصوت الرخيم والهيبة وهو بحر واسع من العلم ، تعلمت منه الالتزام وحب اللغة العربية ، وطوال حياتي وهي تحتل عندي مكانة مقدسة وكذلك حبب إلى الشعر والأدب حتى أصبحت متذوقة لهما. أذكر من مواقفه : كنت أنشد في حفلة مدرسية نشيد سيد درويش أنا المصري كريم العنصرين فلمحني وقال : يا سلام حين يغني جهابذة اللغة العربية . أيضا كان لا يقبل مني الخطأ وإذا أخطأت في تشكيل جملة أو إعرابها ينظر لي نظرة حادة كأنني يجب ألا أفعل إلا الصواب ولعل هذا ما جعلني أحاسب نفسي وأراجعها باستمرار. وكان إذا طالبة أجابت عن سؤال وأجادت فيه يسألني بعدها ماذا يمكن أن تضيفي ؟ فعلمني هذا ملكة الإبداع والطموح وكأن المطلوب مني دائما أن آتي بالأكثر .. ليس مقبولا أن أحصل على جيد أو جيد جدا بل ممتاز ولابد من فائق. وهذا يذكرني بقصة طريفة حين كنت في الثانوية العامة فوجئت بأبي وكنت أكبر أبنائه يدخل البيت ومعه مدرس لغة عربية ليعطيني درسا خصوصيا ، فجلست مع المدرس وكان كلما يسألني سؤالا أجيب إجابة نموذجية فلم يكمل الحصة وخرج وقال : هذه أستاذة لا تحتاج شيئا في اللغة العربية .. وكان أستاذي في المدرسة في تلك الفترة الدكتور جابر قميحة عملاق اللغة العربية قبل أن يأخذ الدكتوراة. تأثرت بعده بأساتذة في فترة الجامعة منهم : الدكتور حامد ربيع يرحمه الله ، ففي بداية مشروعي للماجستير كنت أنوي الذهاب لأمريكا لدراسة الإدارة ، وفي لقاء عابر جمعنا بالدكتور حامد ربيع استمعنا له وهو يتحدث عن الفكر الإسلامي فاستهواني هذا الحديث وكانت لديه بعض الأوراق البحثية التي أعدها لإلقائها في مؤتمر عن فكر الفارابي فأعطاني هذه الأوراق وهذا ما دفعني للتلمذة على يديه وأشرف علي في رسالة الماجستير وكانت عن الفكر السياسي للفارابي . بعد الماجستير ، سافر الدكتور حامد ربيع إلى السعودية ومنها إلى العراق وأكملت الدكتوراة تحت إشراف الدكتورة حورية مجاهد التي احتضنت تلامذة الدكتور حامد ربيع. وفي هذه الفترة بدأت التلمذة الفكرية على كتابات الدكتور محمد عمارة والدكتور محمد سليم العوا والدكتور عبد الوهاب المسيري ، وبدأت رحلة شاقة إلى البحث في أصول الفكر التراثي الإسلامي وكان لابد لي من الاحتكاك بالفقه وأصوله والتفسير وعلوم القرآن وكذلك الحديث والتاريخ الإسلامي. فقرأت لكل من الأستاذ الدكتور الشيخ عبد الوهاب خلاف، و العلامة المحقق ناصر الدين الألباني، والشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ محمد الخضري، والدكتور محمد البهيّ، والدكتور عبد الحليم محمود، والدكتور أحمد عمر هاشم، والفقيه الدستوري الدكتور عبد الحميد متولي، كما قرأت للدكتور أحمد أمين (فجر الإسلام- ضحى الإسلام- ظهر الإسلام) وقرأت في المذاهب الإسلامية للشيخ الدكتور محمد أبو زهرة، والدكتور مصطفى الشكعة. وكان كل كتاب أقرأه يقودني ويهديني إلى كتاب آخر، وبالطبع رجعت إلى مراجع التراث الأصلية وأمهات الكتب، وهكذا من كتاب إلى كتاب كوّنت حصيلة لا بأس بها من الثقافة الإسلامية التي لا غنى عنها لكل باحث يعد نفسه للبحث والدراسة في مجال الفكر الإسلامي عموماً والفكر السياسي الإسلامي على وجه الخصوص. ولقد تعلمت من كل ما قرأته لهؤلاء الأساتذة العظام. كما تأثرت بكتابات الشيخ محمد الغزالي والتقيته عن قرب وأبهرت به وكنت أشعر بنور يشرق من وجهه ونور في أصابع يديه وحلاوة في نطقه وهدوء في صوته ينفذ للأعماق وطيبة عميقة وصدق متدفق . وجدت عند الشيخ الغزالي الفكر الذي خاطبني باللغة التي أفهمها فخاطب عقلي ووجداني وأشاع في نفسي الطمأنينة. وتعلمت من الدكتور حامد ربيع أن أعطي كل شىء حجمه الطبيعي دون مبالغة ولا تهوين ، أما الدكتور المسيري فعلمني الدأب والمثابرة والتدقيق والتمحيص . وتعلمت من الدكتور العوا ألا أتكلم بدون حجة أو برهان ، أما الدكتور عمارة فأبرز ما استفدت منه هو تلك الخلفية الثقافية العريضة والإلمام الواسع بتاريخ وحضارة الإسلام. ومن ضمن من تتلمذت على أيديهم أيضاً، الدكتور أحمد صدقي الدجاني حينما كنت أدرس دبلومة في الدراسات الفلسطينية في معهد الدراسات العربية التابع للمنظمة العربية للثقافة والعلوم بجامعة الدول العربية فكان نموذجا للعالم المتميز بالإخلاص والتفاني في عمله كما كان يعتز بعربيته ويحرص على التحدث بالفصحى . جميع هذه العوامل دفعتني لإنجاز رسالة الدكتوراة " المعارضة في الفكر السياسي الإسلامي " وحصلت فيها على مرتبة الشرف الأولى وتوصية بتداولها بين الجامعات ونشرت بعد ذلك في كتاب . وأذكر الآن الدكتور صوفي أبو طالب يرحمه الله الذي التقيته في أحد المؤتمرات فبادرني بالسؤال : كيف أنجزت هذه الرسالة وكيف استطعت واقتحمت هذا المجال .. مبديا دهشته وإعجابه في نفس الوقت يرحمه الله. ثم جاءت المرحلة التالية في التكوين الإسلامي حيث جاء لي سفر إلى المدينةالمنورة وبالتحديد في كلية التربية وقسم الدراسات الإسلامية والمذاهب المعاصرة فقمت بتدريس المذاهب المعاصرة هناك وكان القسم يعج بأساتذة الفقه وأصوله والعقيدة والتفسير وكانوا من المكفوفين الذين يدرسون للبنات وكان هناك نظام الدوام حيث نقضي وقتا طويلا داخل الكلية، و بعد آداء عملي في التدريس و النشاط الخاص بالكلية كنت أستغل الوقت الفائض في دراسة العلوم الشرعية على أيدي أساتذة القسم المكفوفين و ذلك بالتلقي المباشر بأسلوب الشيخ والتلميذ ، فدرست على أيديهم التوحيد والتجويد والتفسير وعلوم القرآن والحديث وعلوم الحديث والفقه وأصول الفقه ثم أصبحت رئيسة للقسم لمدة ثلاث سنوات وكنت أشعر كأن الله ساقني سوقا لهذا المكان كي أتتلمذ على أيدي هؤلاء الأساتذة وأتلقى هذا العلم الشرعي فضلا عن عبق المكان وروحانياته التي لا أنساها . وبعد ثمان سنوات عدت مرة أخرى إلى جدة للتدريس في كلية الاقتصاد والإدارة شعبة العلوم السياسية وكانت فترة طيبة و مباركة ، وخلال السنوات الثمانية في مصر سافرت في مؤتمرات عدة إلى الولاياتالمتحدة وكوريا والعديد من البلدان الأوروبية . الإصلاح والتغيير ما القضية الأساسية التي وهبت لها عمرك ؟ قضية الإصلاح ، هي القضية الأساسية في شتى ومختلف المجالات ، اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية ودينية . لقد توقفنا عن الإبداع الذاتي ونعيش منذ سنين عديدة عالة على إبداعات الغير وللأسف نحن نستهلك بضاعة فكرية مخصوصة تعد لنا نحن دون غيرنا من المجتمعات. وحين نصل حاضرنا بماضينا وننطلق لمستقبلنا بإبداع ذاتي سنستعيد مكانتنا الني نستحقها . وقضية الإصلاح في نظري ينبغي أن تأخذ من الباحثين والمفكرين جل وقتهم وجهدهم. ومن ناحيتي قمت بجهود ضمن ما بات يعرف بعملية التوجيه الإسلامي للعلوم ( إسلامية المعرفة ) فكانت لي عدة بحوث ومساهمات علمية في هذا المجال . وعملية التوجيه الإسلامي للعلوم ليست في الجانب الموضوعي من العلم ولكنها في الجانب التوظيفي له بمعنى أن توظف الكيمياء أو الفيزياء أو الهندسة الوراثية أو السياسة أو أي علم من العلوم لخدمة البشرية والإنسانية وليس لتدميرها أو إفسادها . فإذا ركزت على علم السياسة ( مجال تخصصي ) نجد أن تعريف السياسة في التراث الإسلامي منصب على عملية الإصلاح فهي : إصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة . ومن هنا تزيد المعرفة الإسلامية عن المعرفة الوضعية بأنها تهتم ليس فقط بسعادة الإنسان في الدنيا ولكن يتعدى الأمر إلى سعادته في الآخرة أيضا . وفي ضوء ذلك أستطيع أن أحدد لك ثلاثة أبعاد للتوجيه الإسلامي لعلم السياسة : البعد الأول : يتعلق بغاية ومهمة علم السياسة في ضوء المقاصد الشرعية . البعد الثاني : صياغة الفروض التي تمثل مجالات للبحث في علم السياسة في ضوء السنن الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة وفي ضوء التجربة التاريخية الإنسانية والإسلامية . البعد الثالث : الكشف عن القيم والمبادىء التي تحكم الممارسة السياسية بما يعني تقديم النظرية السياسية الإسلامية المعيارية ( القيمية ) . لكن ما ردك على من يؤكدون دائما وفي كل مناسبة أنه لا توجد سياسة تراعي الأخلاق وأن السياسة تقوم على مبدأ المصلحة والغاية التي تبرر الوسيلة وليس على أي اعتبارات قيمية أو دينية ؟ الرد بسيط جدا ، وهو أنه لا توجد ممارسة سياسية تخلو من التوجه الأخلاقي ( الأيديولوجي أو الديني ) وهنا لدي تساؤلات : هل لكي يعيش ( أ ) لابد أن يموت ( ب ) و ( ج ) و ( د ) ؟ هل لكي يأكل ( أ ) لابد أن يجوع ( ب ) و ( ج ) و ( د ) ؟ هذا ما جلبته علينا الثقافة المادية التي تتسم بالأنانية ولا تنظر إلى البشر جميعا على أنهم من خلق الله ! أما النظرة السياسية الأخلاقية فنجدها في الإسلام الذي يدعو إلى أن يتحقق الأمن لنا ولغيرنا والحرية لنا ولغيرنا سواء بسواء. الفكر السياسي الإسلامي أنت تقومين بتدريس مادة ( الفكر السياسي الإسلامي ) ، ما مفهوم هذه المادة ؟ وكيف نجعلها تنتج أهدافها في واقعنا المعاصر ؟ مادة الفكر السياسي الإسلامي داخل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية مرت بمراحل ، فأحيانا كانت تدرس ضمن محتويات مادة تطور الفكر السياسي ، وأحيانا موضوعاتها كانت تدخل في مواد : كالعلاقات الدولية أو التنظيم الدولي أو النظم السياسية أو السياسات المقارنة ، بحسب الاجتهاد الشخصي لكل أستاذ . أما تقررها كمادة مستقلة فكان بفضل جهود الأستاذ الدكتور حامد ربيع يرحمه الله ، حيث أصبحت تخصصا متميزا داخل تخصصات العلوم السياسية. هذا عن نشأة التخصص وتقريره أما عن مفهوم هذه المادة وكيف نجعلها تنتج أهدافها في واقعنا المعاصر ، فهذا قد تناولته بالفعل في دراسة علمية قمت بها تحت عنوان : " إشكاليات وحالات في تدريس الفكر السياسي الإسلامي " .. في هذه الدراسة استعرضت عددا من الإشكاليات هي كالتالي : هل هناك فكر سياسي إسلامي ؟ وهل يملك المقومات الذاتية لكي يكون حقلا مستقلا ؟ أيضا ما مدى ماضوية الظاهرة السياسية الإسلامية أو عصريتها ؟ وتساؤل رابع حول معيار " الإسلامية " الذي على أساسه يوصف هذا الفكر السياسي بأنه " إسلامي " ؟ وأخيرا ما هي مناهج دراسة هذا الفكر وكيف يمكن تفعيله في الواقع المعاصر ؟ وفي الجزئية الخاصة بإمكانية تفعيل الفكر في الواقع المعاصر نجد أن كثيرا من الكتابات دارت حول مفهوم " الخلافة " وحول التجربة الإسلامية الأولى في عصر الخلفاء الراشدين حيث ساد منهج تاريخي ينظر إلى الفكر السياسي الإسلامي باعتباره فكر " فرق ومذاهب " ويقيس الأمور على ذلك ، لكن عادة ما يؤدي القياس على التجربة التاريخية التي هي بطبيعتها فريدة بزمانها ومكانها وشخوصها إلى نتائج بعيدة عن الواقع أو إلى إحباطات للواقع . فالقياس على العهد الراشدي للخلافة إذا تحول بالفكر السياسي الإسلامي إلى نوع من الفكر المثالي على غرار " المدينة الفاضلة " فسوف يظل فكرا بعيدا عن الواقع أي أنه يحلم ولا يعالج . لكن ما نريده هو أن يتفاعل هذا الفكر مع الواقع ، وأن يستحضر التجربة التاريخية بقيمها الإسلامية الخالدة ، وأن يفعلها مع الواقع المعاصر ، أي أن يدور البحث في كليات الوجود السياسي المعاصر فننتج فكرا إبداعيا أصيلا يعبر عن الاستمرارية التاريخية للتراث الفكري الإسلامي الذي يتفاعل مع الواقع ويصلحه. وهنا نقول : آن للفكر أن يخرج من صومعته ويحتك بالناس وهموم الناس وأن يقود المجتمع . لكن كيف يجيب الفكر السياسي الإسلامي عن إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة ؟ هذه قضية كبيرة ولا يزال الجدل فيها قائما وتتجاذبها اتجاهات شتى ولكن يمكنني القول إن ابتعاث الظاهرة الدينية وإدماجها في المشاريع السياسية قد أعاد الاعتبار إلى ما كان قد جرى تنحيته ووضعه في ذمة التاريخ منذ إمضاء الحداثة وقيم العصر التكنولوجي. وهذا ما لاحظه مفكرون ومحللون غربيون اهتموا بدراسة الظاهرة السياسية الإسلامية المعاصرة مثل المحلل السياسي الغربي " جيل كيبل " حيث اعترف أن الحداثة قد فقدت مصداقيتها وأن الحركات الدينية المعاصرة تعبر بالأساس عن حركات اجتماعية تحتج على وضع الإنسان في العالم " ذلك الإنسان الذي وضعته الأيديولوجيات العلمانية في مكانة بعيدة عن وضعه كمخلوق". ومن ثم فإن ابتعاث الفكر السياسي الديني اليوم إنما يضع العلمانية وقيمها وإنجازاتها موضع تساؤل وشك ، بل موضع اتهام ومقاضاة ، حيث يحملها مسؤولية الحروب والكوارث والظلم والفقر والمرض نتيجة الابتعاد عن الدين. ومن ثم كذلك فقد شاع نقد الحداثة وما بعد الحداثة وخاصة بعد فشل عديد من مشروعات التحديث في الدول " النامية "، وبرزت الحاجة للتنقيب في التراث الذاتي بحثا عن تطوير نموذج ذاتي للتنمية كما فعلت بعض دول جنوب شرق آسيا ونجحت بالفعل. وما تزال الدول الإسلامية العربية تبحث عن تطوير نموذجها الذاتي مستعينة في ذلك بعملية إحياء التراث الإسلامي ، الذي ما تزال تهيمن عليه في بعده السياسي قضية العلاقة بين الدين والسياسة ومدى استقلال أو عدم استقلال الظاهرة السياسية عن الدين . والمشكلة الحقيقية من وجهة نظري تبدو في الحاجة إلى فهم و بيان كيف أن الظاهرة السياسية غير مستقلة عن الدين ، وكيف أنها غير متطابقة معه كلية في نفس الوقت . كيف إذن السبيل لتحقيق هذا الفهم ؟ إن السبيل لذلك قد يبدو ممهدا ويسيرا بإيضاح خاصية أساسية ميزت تطور الفكر السياسي الإسلامي وهي خاصية " الجمع والمزاوجة بين الدين والعقل في تفاعل مستمر " ، فقد جاءت الخبرة السياسية الإسلامية نسيج متكامل من " التوجيه المنزل والعقل المفكر " . هذا الجمع والمزاوجة بين الدين والعقل هو الذي يتيح للفكر السياسي الإسلامي المعاصر أن يمارس دورا داخل الدول الإسلامية المعاصرة بمؤسساتها الحديثة دون التقيد بأشكال الممارسة التاريخية . فهناك مبادىء وأسس هي التي تبلور حقيقة المرونة التي تتسع لاختلاف الزمان والمكان وهناك أيضا عديد من الروافد الفكرية التي طرأت وأصبحت بمثابة مثيرات ومنبهات طورت من الفكر السياسي الإسلامي وفرضت عليه مواجهة عديد من القضايا التي مثلت تحديا فكريا وحضاريا وبرزت حاجة ماسة إلى التجديد والاصلاح والمراجعة النقدية للتراث . وهنا نجد أن الفكر السياسي الإسلامي قد وضع في أغلب الأحيان في قفص الاتهام وكان على المفكرين الإسلاميين المعاصرين أن يعدوا أنفسهم للبحث عن دلائل وبراهين تثبت الموقف الإيجابي لهذا الفكر تجاه قضايا معاصرة مطروحة بقوة أمامه مثل قضايا المرأة والأقليات وحقوق الإنسان والعلاقة مع الغرب وقبل ذلك قضايا الحكم والسياسة وموقفه من الديمقراطية والتعددية السياسية.. إلخ. ما الذي يجب أن يتغير لدى المسلمين ، كي يتأهلوا لدورهم الحضاري المنشود ؟ الذي يجب أن يتغير هو الإرادة السياسية، وأوضح لك فأقول : بعد تغير النظام الدولي وانهيار الاتحاد السوفيتي وبروز الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز وبروز كل من تركيا وإيران كدولتين إسلاميتين تحاول كل منهما أن تقوم بدور إقليمي كان لي دراسة قدمتها في المؤتمر الدولي عن المسلمين في آسيا الوسطى والقوقاز .. الماضي والحاضر والمستقبل . والدراسة التي قدمتها تتعلق ببناء نظام إقليمي إسلامي يكون البديل الإسلامي للمشروعات الشرق أوسطية الإقليمية الأخرى . وانطلاقا من هذا المفهوم فإن مفهوم العالم الإسلامي هو مفهوم حضاري يعبر عن امتداد تاريخي للمسلمين كأمة عبر قرون من الزمان ساد فيها الإسلام واتسع ودخل أرجاء شتى من المعمورة . ولكن هذا ليس وضعا تاريخيا فحسب وإنما الجغرافيا السياسية الآن تظهر العالم الإسلامي في شكل قوس يبدأ بجناح أيسر عريض في أفريقيا وينتظم غرب آسيا ووسطها وينحني في جنوب آسيا وجنوبها الشرقي ويسميه الدكتور جمال حمدان : ( هلال الإسلام ) . ومن ثم فإذا كان النظام الإقليمي يعبر بالأساس عن امتداد جغرافي لإقليم ممتد فهو بالنسبة للنظام الإسلامي يمثله الإقليم الممتد من المغرب غربا إلى أوزباكستان شرقا ومن تركيا شمالا إلى السودان جنوبا . وهذه منطقة جغرافية تجمع العالم العربي بآسيا الوسطى الإسلامية وتركيا وإيران وباكستان وأفغانستان ومعظمها دول منغمسة في النظام الشرق أوسطي . وهنا أتساءل لماذا يكون نظاما شرق أوسطيا ولا يكون نظاما إسلاميا ؟! وفي نظري أن أهم ما يهدد بناء هذا النظام الإقليمي الإسلامي ليس فقط التحديات الخارجية بل أكثر من ذلك الصراعات الداخلية الإسلامية الإسلامية. فمثل هذا التفتيت والتشرذم هو أخطر ما يواجه الجماعة المسلمة في محيط دولي لم يعد يعترف بالكيانات الصغيرة فضلا عن الضعيفة. لكن توجد بالفعل منظمة إقليمية تجمع جميع الدول الإسلامية هي منظمة المؤتمر الإسلامي ؟ ما قصدته بالنظام الإقليمي ليس هو الشكل المؤسسي الرسمي ذي الطقوس الرسمية ولكن ما أقصده هو التفاعل الحقيقي الذي يعبر عن تلاقي إرادات كافة الدول الإسلامية نحو تحقيق اهداف مشتركة تحقق للمسلمين وزنا فاعلا في المحيط الدولي حتى لا نرى المسلمين في كل مكان من الأرض تقريبا في وضع المعتدى عليهم أو المهضومة حقوقهم أو المسلوبة ثرواتهم فضلا عن إراداتهم. من أبرز من تتلمذ على يديك من أبناء الجيل الحاضر؟ هذا سؤال يجعل ذكريات عديدة تتداعى إلى ذهني وهي أيضا ذكريات عزيزة ، فعديد ممن أشرف بزمالتهم لي قد درست لهم سواء وأنا معيدة أو مدرسة مساعدة أو دكتورة . كذلك هناك عديد ممن هم الآن نجوما في المجتمع العلمي والأكاديمي والإعلامي ولا أستطيع أن أذكر الجميع ولكن تحضرني بعض الأسماء ، مثلا زملائي في القسم د. هبة رؤوف ، د. عبد العزيز شادي ، د. جابر عوض ، د. علي الصاوي ، د. حنان قنديل وغيرهم. وفي مجال الإعلام، صحافة وتليفزيون، أذكر أ. أحمد المسلماني ، د. محمد عبد السلام ، د. عمار علي حسن ، ومن مراكز البحوث د. إبراهيم البيومي غانم ، د. عبد السلام نوير ، محمد فايز فرحات وآخرين غيرهم. ماضي الجامعة وحاضرها التعليم زمان ، والتعليم الآن .. ما أهم الملامح الفارقة بين النوعين ؟ التعليم يعد أفضل استثمار لرأس المال البشري قديما وحديثا ومستقبلا ، وقد حدث تطورا كبيرا في التعليم بسبب تطور وسائل وأساليب ومناهج وتكنولوجيا التعليم . كما أن الثورة المعلوماتية والتطور الحادث في وسائل الاتصال كل ذلك غير من الصورة تماما . وأعتقد أن الجيل الحالي ، أفضل حظا من جيلنا من حيث سهولة ويسر الحصول على المعلومات وغزارة الإنتاج العلمي الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على الأستاذ الجامعي الذي أصبح لزاما عليه مواكبة كل هذه التطورات والتغيرات، كما أن عليه توجيه طلابه للإستفادة بالتكنولوجيا المعلوماتية واستخدام شبكة المعلومات الدولية كل في مجال تخصصه كذلك. كيف انعكس التطور التكنولوجي على الأستاذ الجامعي ؟ لقد غير التطور التكنولوجي كثيرا من الملامح العامة التي كانت ترسم صورة الأستاذ الجامعي وهو يحمل حقيبة مكتظة بالمراجع وفي اليد الأخرى بعض الرسائل العلمية ويدخل قاعة الدرس مثقلا بكل هذه الأحمال .. الآن يكفيه مجرد ( .D C ) أو ( فلاشة ) يدخل بها قاعة الدرس المجهزة بالأجهزة التكنولوجية الحديثة بالإضافة إلى شاشة للعرض مما يمثل عامل جذب للطلاب وراحة للمدرس. لكن لوحظ أستاذتنا الفاضلة أن يسر وسهولة الحصول على المعلومة قد أتاح للبعض ارتكاب العديد من الجرائم ومنها ما نسمعه عن ( السرقات العلمية ) أو ( الاقتباسات غير الموثقة ).. ما تعليقك ؟ كلامك صحيح ، وأنا نفسي فوجئت منذ وقت قريب بصفحات كاملة من أحد كتبي منقولة على موقع بالانترنت ، دون أي إشارة إلى أنها منقولة من كتابي . وفي هذه الحالة يجب على الباحث أن يلجأ إلى الأساليب التي تحمي حقوق الملكية الفكرية لأن هذه التطورات ثبت أنها سلاح ذو حدين بها كثير من الفائدة إلا أنها لا تخلو من بعض الضرر. ماضي الجامعة حاضر الجامعة مستقبل الجامعة .. نرجو أن تحددي ملامح الجامعة في الحالات الثلاث ؟ الماضي بالنسبة للجامعة شهد البدايات ، والحاضر يشهد النمو المتزايد والتطورات ، أما المستقبل فندعو الله أن يشهد الانطلاقات التي بلا حدود في شتى مجالات التعليم ؛ فالتعليم هو أفضل طريق للنهوض بالمجتمعات . بين رسالتين قال برنارد شو : " من لم يطبع بصماته على الحياة من حوله فليس جديرا بهذه الحياة " .. ما مفهوم هذه العبارة وما تعليقك عليها ؟ نحن ضيوف على هذه الحياة وعابري سبيل ، فمن الناس من يعبر دون أن يترك أثرا طيبا ، ومن الناس من يعبر ويترك أثرا سيئا ، ومن الناس من لا يترك أي أثر على الإطلاق ، وبالطبع الأوفر حظا هو صاحب الأثر الطيب. والأثر الطيب في نظري مصداقه قول الله تعالى : " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " سورة فاطر : 10. وحقا ، الكلام الطيب والعمل الصالح هو ما يبقى من سيرة الإنسان بعد أن يرحل عن هذه الحياة وهو أشد ما أحرص عليه. وما هي بصماتك على هذه الحياة ؟ أولادي وتلامذتي ومؤلفاتي وأبحاثي وإنتاجي العلمي أدعو الله أن أكون قد أثرت إيجابا في كل هؤلاء ، وأن أنتفع بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " . اتهامات غربية الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة .. أهم دعاوي الغرب في اتهام الإسلام والمسلمين .. كيف ننقض هذه الدعاوى والاتهامات ؟ الديمقراطية في شكلها الغربي هي حصيلة تطور المجتمع الغربي وهي انعكاس للرأسمالية أو هي الصورة السياسية للرأسمالية الاقتصادية والعولمة في عصرنا الحالي . ويحاول النموذج الرأسمالي الغربي فرض نفسه على الدول والمجتمعات ومن ذلك التبشير بالديمقراطية وأنها أفضل نظام عرفته البشرية حتى الآن. والديمقراطية كنظرية بها إيجابيات ولكن كيفية تطبيقها في المجتمع هو أمر يحتاج إلى مناقشة. وأذكر – بهذا الخصوص – مقولة تزعم أن الديمقراطية يمكن تحقيقها في مجتمع جميع أفراده من الفقراء، بعكس الحال في مجتمع يعاني الطبقية الحادة بين قلة غنية وسواد أعظم فقير.. بمعنى آخر، إن الديمقراطية لابد وأن ترتبط وتتعلق بالمساواة والعدالة وتوزيع الموارد السياسية والاقتصادية توزيعا عادلا. أيضا لابد من مراعاة الخصوصيات المجتمعية ، فلدينا في مجتمعاتنا ثقافتنا الإسلامية القائمة على الشورى ولدينا مجتمعات قبلية لها تقاليدها وكل ذلك ينبغي أن يؤخذ في الحسبان. أما عن حقوق الإنسان التي يتشدق بها الغرب من وقت لآخر فلقد سبقت الرسالة الإسلامية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في تقرير الحقوق الأساسية للبشر بل ولجميع المخلوقات حتى حقوق الحيوان ، ولكن الذي يحدث في الواقع هو استغلال هذه القضية كذريعة للتدخلات السياسية وأحيانا العسكرية ، فنجد أن من يزعمون الدفاع عن حقوق الإنسان ليسوا بأفضل حالا ممن يهاجمونهم بدعوى أنهم قد انتهكوا حقوق الإنسان ، فهذه قضية يصدق عليها مقولة : " قضية حق يراد بها باطل " . ولا يعني ذلك أنه لا يوجد لدينا تجاوزات تمس حقوق الإنسان ولكن من الناحية الفكرية النظرية نجد أن الإسلام قد أقر هذه الحقوق بشكل أعمق وأسبق وأكثر شمولا واتزانا من أي دعاوى غربية . أما بخصوص المرأة فأقول : ارفعوا أيديكم عن المرأة المسلمة ، فقد بلغت رشدها وتستطيع أن تختار لنفسها ، وهي بلا شك سوف تنحاز لدينها وحضارتها الإسلامية. وماذا تفسري هذا العداء الغربي للإسلام الذي أصبح يمثل "فوبيا" معاصرة شعارها : الخوف من الإسلام؟ أعتقد ، في كلمات موجزة ، أن الغموض وعدم الفهم وتشويه الصورة هو الذي يسبب هذه الفوبيا وهذا العداء بالإضافة إلى الإرث التاريخي من الحروب وصراع المصالح. كلمة مكثفة مركزة توجهينها لشباب هذه الأيام ؟ بمنتهي التركيز أقول : ليكن " الإخلاص " خلقكم وعدتكم في كل عمل ، ولنذكر في ذلك أن السورة التي تعدل ثلث القرآن اسمها سورة الإخلاص ، وأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالإخلاص فقال : " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة " سورة البينة : 5 . وأيضا أرشدنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الاتقان والإجادة في كل عمل بقوله : " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " . و علينا جميعاً الامتثال للأمر الإلهي والهدي النبوي وأن نبتغي الإتقان والإخلاص في الدين والعمل والعبادة لنكون جديرين بشرف الانتساب لذلك الدين القيم. وأختم كلامي بالحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين.