في الأزمنة الرّديئة والمحفوفة بالصّعوبات والمآسي، ينتظر المؤمن من السّماء أن تنقذه من هذه الصّعوبات، بل ينتظر أن تضع حدّاً لها. وهذا طبيعيّ ومفهوم وبديهيّ. إلّا أنّ المؤمن المسيحي لا يكتفي بالانتظار بل إنّه يثق بأنّ الرّبّ حاضر معه ويعمل ويعتني. " لا تخافوا، ها أنا معكم طول الأيّام وحتّى انقضاء الدّهر" ( متى 20:28). ولئن كان الإنسان يسيطر عليه الخوف والقلق، تعرّض إلى استغلال فكريّ ونفسيّ وروحيّ، فيتشتّت عن إيمانه الحقيقي ويضعف أكثر فأكثر، ويتعلّق بأمور تبدو له سماويّة، وذلك لأنّه يشعر بالعجز التّام، وغير قادر على الخروج من واقعه. من أهمّ العوامل المؤثّرة في نفس المؤمن والمثيرة للجدل، الحديث عن ظهورات أو رسائل سماويّة، سواء أكانت ظهورات السّيّدة والدة الإله أو أحد القدّيسين أو ظهور ليسوع المسيح. وللإحاطة بهذا الموضوع ينبغي التّحدّث عن ثلاث نقاط أساسيّة: معنى الظّهور في المسيحيّة، المفهوم الخاطئ للظّهورات وتأثيره السّلبي على الإيمان، المسيحيّة قائمة على شخص يسوع المسيح وليس على الظّهورات. 1- معنى الظّهور في المسيحيّة: الظّهور وسيلة من وسائل التعبير عن وحي الله، بواسطتها تصبح الكائنات غير المنظورة بطبعها حاضرة بشكل منظور. في العهد القديم يظهر الله فيعلن مجده أو يحضر بواسطة ملاكه. ويذكر العهد الجديد ظهورات ملاك الرب أو الملائكة، بمناسبة ميلاد يسوع ( متى 1: 20، لوقا 1: 11 و 26، 2: 9)، أو بمناسبة قيامته (متى 28 0 2 4. مر 16: 5. لوقا 24: 4، يو 20: 12)، ليبيّن أن السماء في هذه اللحظات الكبرى من حياة يسوع حاضرة على الأرض. ولكن في الواقع ثمّة تغيير جذري حصل، وهو ما يعبّر عنه يوحنا بقوله: " ما من أحد رأى الله، الابن الواحد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه (يوحنا 1: 18). والابن أخبرنا عن الله بوجوده: " من رآني رأى الآب" ( يو 9:14). فإنّ الله ظهر في المسيح. " الذي ظهر في الجسد وتبرر في الروح، شاهدته الملائكة، كان بشارة للأمم، آمن به العالم ورفعه الله في المجد" ( 1 تيم 16:3). " ظهر حنان الله مخلصنا ومحبته للبشر" ( تيطس 4:3). إذاً الظّهور الإلهيّ تجلّى لنا بيسوع المسيح الذي هو " صورة الله الذي لا يرى وبكر الخلائق كلها." ( كولوسي 15:1). وإذا ما تحدّثنا عن ظهورات المسيح، ما بعد القيامة، بدءاً من الظّهور للنّسوة والتّلاميذ، إلى بولس الرّسول، نرى أنّ هذه الظهورات تستهدف بيان رسالة تأسيس الكنيسة، كما تدور حول التعرّف على الشخص الذي ظهر، أي يسوع المسيح. 2- المفهوم الخاطئ للظّهورات وتأثيره السّلبي على الإيمان: – بناء على ما ذكرناه سابقاً، نستنتج أنّنا خلقنا مفهوماً خاطئاً عن الظّهورات، إذ لا يمكن أن نقارن ما ورد في الإنجيل المقدّس من ظهورات بما نسميه نحن " ظهورات". خاصّة أنّها تتّسم بطابع غريب، ومختلف بل يدعو للشّك، إذا ما دقّقنا فيها. كتلك الّتي نرى فيها حالات إغماء، أو انتظار رسائل من الرّبّ أو من السيّدة العذراء أو إلى ما هنالك من حالات نسمّيها ظهورات. إنّ قراءتنا العميقة للإنجيل المقدّس وفهمنا العميق لمعنى الظّهور، يفترض منّا أوّلاً أن نتخلّى عن فكرة أنّ الله يتكلّم معنا من خلال أشخاص معيّنين، فالله يتكلّم من خلال أي إنسان مؤمن اتّحد به وأصغى لكلمته وسمح لها أن تخترق كيانه. ( في الأيام الأخيرة أفيض من روحي على جميع البشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاماً. وعلى عبيدي، رجالاً ونساء، أفيض من روحي في تلك الأيام فيتنبؤون كلهم. (أع 18،17:2) . كما أنّه يجب أن نتخلّى عن فكرة أنّ الله يرسل لنا رسائل سماويّة إضافيّة، فكأنّنا نقول أنّه نسي أمراً هامّاً، ويعود ليذكّرنا به. إنّ الله قال كلمته بيسوع المسيح بشكل نهائيّ، وكلمته الحيّة هي كتابنا المقدّس. ومن أراد أن يسمع كلام الرّبّ، فليفتح الكتاب المقدّس، ففيه يسمع ويصغي إلى الكلمة. الله يخاطبنا ويحاورنا في الكتاب المقدّس، ولا داعي لأن نهرع كلّما سمعنا بظهور هنا وهناك، لنسمع كلمة من الله. ولو دقّقنا في جميع الظّهورات المتداولة بكثرة في هذه الأيّام، أو تلك الّتي حصلت سابقاً، فلن نرى أيّ جديد فيها. علينا أن نؤمن بوعي، فالإيمان هو الحقيقة الّتي نصدّقها بعقلنا ونسمح لها أن تتسرّب إلى قلبنا. وليس الإيمان أن نصدّق كلّ ما يقال لنا، ولا أن نشعر بالذّنب إذا رفضنا التّصديق. الإيمان لا علاقة له بالعواطف والمشاعر، لأنّه ثقة بمن نؤمن به، والإحساس بالذّنب ينتج عن خوف وضعف إيمانيّ. فالثّقة بكلمة الرّبّ هي الثّقة بأنّه حاضر هنا وأبداً دون الحاجة لظهورات ملتبسة. – لو تبيّنا غالبيّة الظّهورات القديمة والجديدة، نرى أنّها لم تأتِ بجديد، بل على العكس، وكأنّ هذه الظّهورات تحمل في مضمونها إبعاد المؤمن عن الكنيسة. كأن تطلب السيدة العذراء من النّاس أن تصلّي في البيت أو ما شابه، أو كأن تظهر خلال القدّاس الإلهي، أو كأن يبشّرنا أحد القدّيسين بحروب ومعارك… ظاهريّاً نرى النّاس مندفعين ومتحمّسين لمشاهدة الظّهور أو لتكثيف الصّلوات، ولكن عمليّاً ودون أن ندري، نتّجه نحو الانحدار الإيماني، وشيئاً فشيئاً سيبطل إيماننا لأنّنا لن نلمس في هذه الظّهورات أيّ فعل سماويّ. فأين الفعل السّماوي في صورة عذراء تبكي، أو ملامح نور في السّماء، طالما أنّه ما من شيء واضح. وماذا نفهم من ظهور قدّيس على أشخاص وإعطائهم رسائل يمكن أن يقولها أي إنسان في جلساته العادية اليوميّة. والمشكلة الكبرى تكمن في حال أتت الظّروف مخالفة للواقع. كأن نقرأ أو نسمع منذ فترة لا بأس بها أن السّيّدة العذراء ظهرت في العراق، وفهم المسيحيّون أن السّيّدة تحميهم، وما لبث بعد بضعة أيّام أن تمّ تشريدهم وطردهم وإذلالهم. هذا الأمر يدفع المؤمن إلى التّشكيك، أو إلى الاتّجاه نحو البدع، أو حتّى إلى رفض الإيمان نهائيّاً. وهناك أمثلة عديدة تؤكّد هذا الأمر. – بتصديق هذه الظّهورات الملتبسة، نعبّر عن عدم ثقة بكلمة الرّبّ في الإنجيل المقدّس، وعن عدم ثقة بحضور الرّبّ معنا، في سرّ الأفخارستيا. إذا كنّا لا نندهش ولا نرى المسيح الحيّ في القدّاس الإلهي، فهذا يعني أنّنا ما زلنا على مستوى الدّيانات الّتي ما زالت تبحث عن الله الفكرة. بيد أنّ المسيحيّة ليست ديناً تائهاً بين الدّيانات، المسيحيّة حقيقة العلاقة بين الله والإنسان بيسوع المسيح، وحقيقة حضور الله الفعليّ والحقيقيّ. 3- المسيحيّة قائمة على شخص يسوع المسيح وليس على الظّهورات: المسيحيّة فكر حيّ وقلب منفتح على كلمة الرّبّ، وحضارة اختصرت مفاهيم الكيان الإنسانيّ كلّه، محورها شخص حيّ هو يسوع المسيح. والظّهور الّذي علينا أن نهرع إليه هو جسد الرّب في القدّاس، هذا الظّهور المتجدّد والقائم باستمرار في حياتنا. لن يضيف أيّ " ظهور" معنى للمسيحيّة كفكر وكمنهج حياة. ليس كلام الرّبّ في الكتاب المقدّس حروفاً جامدة أو حدثاً حصل وانتهى. بل إنّه كلمة حيّة موجّهة إلينا وبشكل شخصيّ في كلّ يوم وفي كلّ لحظة لأنّ المسيح هو هو الأمس واليوم وغداً وإلى الأبد. ( عبرانيين 8:13). كما علينا أن نثق بكنيستنا ونلجأ إليها وإلى تعاليمها، فالكنيسة بأعضائها البشريّة مقدّسة برأسها، يسوع المسيح، الّذي يقدّسها ويقودها. وهي الضّمانة الوحيدة للحفاظ على إيماننا بالمسيح، وحمايتنا من أيّ تعليم ضال. " فلو بشّرناكم نحن أو بشّركم ملاك من السّماء ببشارة غير التي بشّرناكم بها، فليكن ملعوناً." ( غلاطية 8،9:1).