بقلم نهى البلك في الثمانينيات، كنت نجلس صغاراً أمام شاشة التليفزيون لنشاهد مع الكبار نفس البرامج، التي لم يكن متاحاً غيرها، فليس سوى قناتين وساعات محدودة من الإرسال تبدأ وتنتهي يومياً في مواعيد ثابتة.. كان للتليفزيون والإذاعة أثرهما النافذ في تكويننا، وفي وجدان الكبار وعلى المجتمع ككل، فالنبع واحد يرِده الجميع.. كان من أهم تلك البرامج لقاء الشيخ الشعراوي، وبرنامج آخر من العلامات، "حياتي" مع الإذاعية القديرة فايزة واصف. حديث الشعرواي الثري، بعلم اللغة والتفسير والقصص القرآني، مع أسلوب بسيط قريب يفهمه كل أحد، والعنوان الذي يمتد في خلفية وعي المستمع "خواطر الشعراوي"، هي خواطر بما فتح الله عليه به من علم ومن معنى.. النص القرآني مقدس، والخواطر غير مقدسة. في برنامج "حياتي" نرى قصةً ممثَّلة، تجسد مشكلة بعث بها أحدهم في رسالة سرية، تذكر المذيعة أول حروف اسمه أو الاسم الرمزي الذي اختاره لنفسه، لتناقشها مع الضيف الذي تختاره بدقة وحكمة ليناسب موضوع المشكلة في محاولة لمساعدة صاحبها وتعميم الفائدة. كان هناك أيضاً برامج دينية أخرى في شكل سؤال وجواب وفتوى، وترسخت في الذاكرة السمعية كلمة يختم بها العلماء الأجلاء إجاباتهم، مهما كانت بساطة السؤال ووضوح الإجابة، تبرئة لأنفسهم ولأعراضهم ولضمائرهم وربما تذكيراً للسائل بأنهم يجتهدون ليس إلا، وأن العلم الكامل والحكم الحقيقي لله وحده، وأن هذا مجرد رأي..."والله أعلم". كثرت الفضائيات، وازدادت مساحة البرامج الدينية واتخذت أشكالاً مختلفة يغلب عليها الأسئلة والفتاوى، وانحسرت مساحة التأمل والتفسير والفكر؛ إلا قليلاً. واختفت نوعية برنامج "حياتي"، الذي استُثمرَت فكرتُه بأشكالٍ مختلفة لم تكن في قوته ولا جديته ودقته ولا رصانة مقدمته القديرة. والذي حدث أن اختلطت النوعيات والأشكال، حتى بات البرنامج الواحد شاملاً، متنوعاً، وأحياناً مرتبكاً في غايته ومادته وشكله. وأكثر ما ظهر هذا الاختلاط في برامج جمعت بين الديني والاجتماعي.. وصار الشكل الثابت للبرامج، جلسة تضم المذيع-ة والضيف، الثابت يومياً أو أسبوعياً، وتليفونات وأسئلة؛ وحديث من الضيف يجمع الفتوى بالخاطرة بالرأي الخاص، حتى ذابت الفوارق بين كل ذلك، وحتى اختفت -تقريباً- كلمة "..والله أعلم" . "كلٌ يؤخذ منه ويُرد".. بهذا أقرأ وأستمع لكل الأشخاص والأفكار والآراء، خاصةً فيما يتعلق بالدين.. مع الوقت تستطيع أن تميز وتختار مَن تتابعه أكثر أو من يتكرر خذلانه لتوقعاتك، من يملك فكراً وحكمة ورؤية حقيقية وأصيلة ومن يحفظ ويردد دون إضافة، من يرى بعمق ومن يحدثك بقشور المعاني.. هذه فروقات يمكن لكل قاريء أو باحث، أو على قدر من المعرفة، أن يتبينها ويميزها ومن ثَمّ تكون له دليلاً ومرشداً لوضع الكلمات في نصابها ليتبين متى يأخذ ومتى يرد، ومتى يبقى الأمر في حدود الرؤية الخاصة ولا ترقى للحكم الشرعي. هذه الفروقات التي يحرم منها الكثيرون من أصحاب الحظ القليل من التعليم أو من الثقافة العامة والدينية خاصةً، بما يدفعهم لوضع كل المتحدثين عن الدين في مكانة واحدة، ووضع كل ما يتفوهون به في درجة واحدة، مكانة ودرجة في الغالب تصل للإكبار ولا أقول التقديس.. لدرجة تجعلهم يتصورون قاريء القرآن عالماً بالفقه،ويتصورون الحافظ صالحاً للاجتهاد، وبعضهم يستوقف رجلاً في الطريق، لمجرد أنه ذو لحية طويلة، ليسألوه عن حكمٍ ما، مخاطبينه ب "يا شيخ".. منذ سنوات، وفي أحد البرامج المشابهة، تلقت الدكتورة، أستاذ الفقه المقارن، مكالمة تسأل صاحبتُها عن موقفها من زواجها الأخير، بعدما طُلقَت من زوج وتزوجت بعده عرفياً ثم تزوجت بثالث، لم تجزم هل طلقها الثاني أم لا، وما وصل إلى سمعي من خلال الشاشة هو أن زوجها الثاني لم يطلقها، ولكن الدكتورة -التي كانت تشكو عدم وضوح الصوت- أجابتها بألا تعر الثاني اهتماماً ولا تلقي لتهديداته وإصراره على أنها لازالت على ذمته بالاً؛ هكذا حكمت على الهواء. خطورة مثل هذه الفتاوى هو أن البعض يقيس عليها ما لا يصح قياسه، متكئين على فتوى بالأساس قد تكون غير دقيقة بناءً على مكالمة من طرف واحد في المسألة قد يكذب وقد لا يحسن التعبير وقد لا يصل صوته بشكل جيد. صحيح أن الخطأ وارد في أي فتوى أو حكم، ولكن "الأثير" يجعل الخطأ شائعاً ومربكاً وعامّاً. ليس هذا فحسب، ولكن أيضاً بعض المشكلات تحمل كشفاً لأستار لا يجوز أن تكشف هكذا على الملأ، وليس من الحكمة في شيء مناقشتها أمام الجميع.. وإذا كانت الأعمال الفنية تصنف بحسب العمر المسموح له مشاهدتها فإن هذه البرامج متاحة لكل أحد. بالطبع فإن هذا الأمر لا يقتصر على هذه النوعية من البرامج، وإنما كل مساحة تفتح لمكالمات الناس تحمل نفس المآخذ، إلا أن وجود عالم دين يفرض وقاراً وحياءً وتحفظات خاصة. عالمُ دين.. لا يمكن إنكار وجود علم ديني يختص به بعض الناس، لينقلوه ويعلموه غيرهم، وهذا يختلف عن فكرة الوصاية والحكم على إيمان الآخرين ونواياهم وقلوبهم.. لدينا علماء دين، وليس لدينا أوصياء ولا صكوك غفران ولا وسطاء بين المرء وربه. لدينا اجتهاد -فيما يجوز الاجتهاد فيه- وليس لدينا أحكام نهائية، لدينا الثابت ولدينا المختلف فيه. وأيضاً..هناك فرق بين العلم الديني وبين القدرات الشخصية، التي تسمح بالحديث في أمور عامة، كالسياسة وغيرها، مع وضع الضوابط والفواصل اللازمة بين الحديث الديني وغيره حتى لا تختلط الأحكام. أتت امرأة للرسول عليه الصلاة والسلام لتقول له بأن زوجها لا يعيبه شيء إلا أنها تكره الكفر في الإسلام، يعني تكره ألا تطيع الله فيه، فأمرها برد المهر وكان أمره تشريعاً يُعرِّفنا حكم الخُلع, وجاءه شاب يطلب منه الإذن بالزنا، وكان مقاماً آخر، لم يكن الأمر فتوى، وإنما كان علاجاً من الرسول الكريم بتفهم وحكمة. يوم السبت الماضي، وخلال برنامج "الدين والحياة"، لمقدمته المُجدّة "دعاء فاروق"، اتصلت إحداهن وقد بدا على صوتها الارتجاف والتوتر الشديد، وحكت باختصار عن خيانة زوجها لها وخيانتها له وأنها أم لثلاثة أطفال، وأن زوجها لم يعلم شيئاً عن خيانتها لكنهما منفصلان داخل البيت منذ خيانته هو لها؛ وسؤالها حول أنها تريد ترك زوجها... بدا الغضب الشديد على وجه الدكتور خالد الجندي، والأمر يستحق الغضب، ولكن ربما ليس هنا مقامه.. الدكتور خالد الجندي ممن يجيدون الحديث، له فكره واجتهاده الخاص ويملك القدرة على التحليل والاستنتاج، وأسلوباً خاصاً في عرض الفكرة وفي الخطاب، ليس مجرد حافظ ولا محدود الفكر.... غير أنه ، كالجميع، يؤخذ منه ويرد، وقد تتفق معه في رأي وتختلف في آخر، قد يصيب في اجتهاده مرات ويجانبه الصواب مرة؛ ولكنه ممن تليق بهم المتابعة لاجتهاده وفكره المعتبر اليقظ. مشكلة تلك المرأة المتصلة لم تكن مشكلة دينية، فهي لا تحتاج إلى فتوى تخبرها بأن ما فعلته حرام، هي تعلم أنها أتت محرماً، ولكن مشكلتها نفسية في المقام الأول، اجتماعية في المقام الثاني.. هي بين زوج لا تحبه ورجل آخر ترغبه، والواضح أن فرصة الخطأ أمامها متاحة وكبيرة، والشيخ أمرها، بحدة، بأن تبقى في بيتها ك"دادة" لأطفالها؛ وبرغم التفهم الكامل لمنطق الشيخ إلا أن من ينظر إلى الأمر بكامله سيجد أن هذا ربما لا يكون حكماً واقعياً بالنسبة لوضع امرأة شابة في حالة خصام مع زوجها، بل قد يدفع بها إلى تكرار الخطأ.. الأمر كان يحتاج معالجة أخرى يصلح لها طبيب نفسي أو متخصص اجتماعي، يعرف كيف يدفعها هي نفسها بنفسها إلى القرار السليم، ويعالج سبب وقوعها في الخطأ. الشيخ أجاب بمنطق الإنسان العادي الغيور الغاضب، وليس بمنطق المعالج؛ وحتى لو أراد لم يكن ليستطيع لأن الوضع لا يسمح كون المسألة مطروحة على الملأ وعلى الهواء. كان الأمر سيختلف كثيراً لو أن الشيخ تماسك وملك غضبه واعتذر عن الرد وأحال المسألة لطبيب أو أخصائي اجتماعي.. بدلاً من أن يبدو الأمر ك"فتوى" قد يترتب عليها أخطاء أخرى. عندما كانت تعرض مشكلة في برنامج "حياتي" كان السائل يعرف أن هذا رأي متخصصين، مجرد رأي، ليس مقدساً ولا مفروضاً، هو مخير على أي حال يأخذ به أو لا إن لم يناسبه أو يقنعه الرأي... وكانت برامج الفتاوى تحرص على تذكير السائلين بأن المجيب قد يكون مخطئاً، من خلال العلماء الأجلاء، بمقولتهم المكملة لكل فتوى: "...والله أعلى وأعلم".