جلس الخليفة المثمن(1) أبو إسحاقَ المعتصمُ بالله ذات ليلة يتسامر مع بعض أَوِدَّائه، فدخل عليه أعرابيٌّ لوذعي، سِرْطمٌ (2) نَدْمٌ (3)، ثَقِْفٌ لَقِْفٌ(4)، فأبان له عن حاجته بلسان مرهف مصقول، وَوَجَزَ في منطقه، وخليق بالكلام الوجيز البليغ أن يُقْبَلَ، والكلامُ الهَذَرُ مَقْمَنَةٌ لأن يمج ويرفض.. فأُعجب المعتصم بالأعرابي، وهش له وبش، ثم قربه وأدناه، وأندى عليه(5) واصطفاه.. وكان للمعتصم وزير خبيث ذو أَضَم(6)، ما إن رأى عطايا المعتصم تترى على الأعرابي، وشهد مكانته ترقى يوماً بعد آخر؛ حتى اشتد حسده عليه. وهكذا الرُّمُق(7) يشق عليهم إنعام الله تعالى من فضله على العباد، فيتمنى أحدهم زوال النعمة عن أخيه وإن لم تحصل له، فهو على الحقيقة معاد لنعم الله. قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود ]: لا تعادوا نِعَم الله. قالوا: ومَن يعادي نعم الله؟! قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله. فالحاسد معترض على قضاء الله، فمن ثم يحرم التوفيق والفلاح. ألا قل لمن ظل لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب؟ أسأت على الله في حكمه إذا أنت لم ترض لي ما وهب فأخزاك ربي بأن زادني وسد عليك وجوه الطلب وكفى منادياً على خطورة الحسد أنه أول ذنب عُصي الله به في السماء (حسد إبليس لآدم)، وهو أيضاً أول ذنب عُصي الله به في الأرض (حسد قابيل لأخيه هابيل). أول ذنب عُصي الله به في السماء والأرضين الحسد(8). ولكن الوزير الحسود لم يفقه هذا، فطوى كَشْحَه على إلحاق الأذى بالأعرابي بأن يوقع بينه وبين السلطان العداوة والبغضاء، واختط خطة لذلك؛ فأمر امرأته أن تهيئ طعاماً وأن تكثر فيه من الثوم، ثم ذهب إلى الأعرابي واستزاره(9)، فأجابه. فلما فرغا من الأكل قال الوزير: إني لك ناصح: إن المعتصم يكره النَّبَّةَ(10) ويجفو صاحبها؛ فلا تقربن منه اليوم وقد أكلت ثوماً! فشكره الأعرابي على نصيحته وانصرف. وأسرع الوزير إلى المعتصم كأنه نار تتقد خرجت تسير في الطريق تؤذي كل من مرت به، حتى وصل إلى الأمير فقال له: إن الأعرابي الذي تحسن إليه وتخلع عليه يشيع في الناس أنك أبخر (11)! ثم انصرف. فلما أمسى المعتصم أمر ألا يدخل عليه أحد سوى الأعرابي، فلما دخل وضع كمه على فمه؛ لئلا يشم المعتصم رائحة الثوم منه؛ فيجفوه، ثم تنحى وجلس بعيداً. فقال المعتصم في نفسه: صدقني الوزير، ثم دعا بقلم وقرطاس وكتب إلى عامل من عماله: «إذا وصلك كتابي هذا فاضرب عنق حامله»! ثم تَلَّ الكتاب(12) في يد الأعرابي قائلاً: خذ هذا الكتاب واذهب به إلى العامل الفلاني، ولا تفتحه حتى تصل إليه، فأخذه الأعرابي وأثنى على الأمير ثم انصرف. فما إن خرج حتى تبعه الوزير، فسأله: ما صنعت؟ قال الأعرابي: أعطاني أمير المؤمنين كتاباً، وأمرني أن أدفعه لعامله فلان. فقال الوزير - وكان يعلم أن المعتصم لا يكتب كتاباً إلا بصلة أو عطية -: ما قولك فيمن يتحمل عنك مشاق السفر ويوصل الكتاب للعامل؟ - ومن أين لي به؟ - ها هو ذا أمامك. - وتفعل؟ - نعم، بل وأعطيك ألفي دينار كرامة لك! فناوله الكتاب وقال له: أَبْدَعَ بِرُّك بِشُكْري، وأبدع فضلُك بوصف(13). وَطَفِقَ الوزير يهيئ راحلته، وتجشم مشاق السفر رجاء الظفر بالمَوْهِبَة (14). فلما انتهى إلى العامل دفع إليه الكتاب.. فلما قرأه العامل أمر بضرب عنقه!! وبعد ليال خطر الأعرابي بخلد المعتصم، فسأل عنه، فأُخبر أنه بخير، فتعجب! ثم سأل عن الوزير، فقالوا: اختفى من أيام، فأمر بالأعرابي فجيء به، فسأله: ما فعلت؟ فاستقبل الأعرابيُّ الحديثَ يسوقه. فلما انجلى الأمر، وحصحص الحق، قال المعتصم: «قاتل الله الحسد! ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله». ثم اتخذ المعتصمُ الأعرابيَّ وزيراًًًًً بدلاً عن السابق الحسود. إن من أعظم العقوبات التي تحل بالحاسد أن يزاد في الفضل للمحسود بسبب الحسد. إن الحسود هو المَزْكُوت(15) الدائم الهم، يحزن حين يفرح الناس، ويغتم حين يسر الخلق، يستمطر السخط من ربه، ويجمع من هموم الناس على همه، وليس بضارهم شيء إلا بإذن الله. عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قيل لرسول الله [ أي الناس أفضل؟ قال: «كل مَخْمُومِ القلب، صدوقِ اللسان». قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي، لا إثمَ فيه، ولا بَغْيَ، ولا غِلَّ، ولا حسد»(رواه الإمام ابن ماجه في «سننه»، كتاب الزهد، باب الورع والتقوى، حديث رَقْم (4216) بإسناد صححه الإمام المنذري في «الترغيب والترهيب»، والبوصيري في «مصباح الزجاجة»). وروى الإمام ابن حبان في «صحيحه» (4606، إحسان) عن أبي هريرة ] أن رسول الله [ قال: «لا يجتمع في جوف عبدٍ مؤمنٍ غبارٌ في سبيل الله وفيحُ جهنمَ، ولا يجتمع في جوف عبدٍ الإيمانُ والحسدُ». قال صاحب «الإحياء» (ج3، ص201): قال بعضهم: «الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلاً، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضاً، ولا ينال من الخلق إلا جزعاً وغمّاًًً، ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولاً، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالاً»، فاللهم سلم. الهوامش (1) كان يقال للمعتصم: المثمن؛ لأنه ولد سنة ثمانين ومائة هجرية، في ثامن شهر فيها وهو شعبان، وتوفي أيضاً في ثامن عشر رمضان، وهو ثامن الخلفاء من بني العباس، وفتح ثماني فتوح، ووقف في خدمته ثمانية ملوك، واستخلف ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، وخلف ثمانية بنين وثماني بنات. (راجع: «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» لابن العماد الحنبلي، ج2، ص63). (2) السِّرْطم: المتكلم البليغ. (3) النَّدْم: هو الكَيِّس الظريف. (4) أي: خفيف حاذق. (5) أي: أفضل عليه. (6) الأَضَم: الحسد. (7) الرُّمُق: الحسدة. واحدهم: رامق، ورَمُوق. (8) راجع: كتاب «الوسائل إلى معرفة الأوائل» للحافظ السيوطي يرحمه الله، ص70، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان. (9) أي: طلب منه أن يزوره. (10) النبة: الرائحة الكريهة. (11) البَخَر: نتن رائحة الفم. (12) أي: دفعه إليه. (13) أي: أشكرك على إحسانك إليَّ، وأعترف بأن شكري لا يفي بإحسانك. (14) الموهبة: العطية. (15) المزكوت: المهموم.