بقلم الدكتور أحمد الباسوسي: الإبداع من منظور نفسي تبدو العملية الإبداعية ظاهرة يتفرد بها الجنس البشري مقارنة بجيرانه من الأجناس الأخرى على سطح كوكب الارض . والدليل على ذلك قد يدركه الأشخاص قليلي الملاحظة ويتمثل في تلك الحركة التطورية التي اكتسحت الكون منذ إماطة اللثام عن الإنسان البدائي الذي كان يسكن الجبال ويتعارك مع الحيوانات ليحصل على غذائه ويعيش أيامه في حروب مستمرة من أجل أن يظل على قيد الحياة . وما نراه متمثلا في تلك الثورات المتواصلة في مجالات الزراعة والصناعة والتكنولوجيا ومجالات الطاقة ، ووسائل الاتصال والنقل . والقوانين المنظمة لحركة البشر وصراعاتهم ، ناهيك عن مجالات الفنون والفلسفة والطب وغيرها . الأمر الذي يمنح الكائن البشري الأفضلية والسبق في قدرته على تغيير واقعه مقارنة بجشرة مثل حشرة الصرصور . أو كائن ضخم عظيم لم يتحمل تقلبات الواقع فاختفى مثل الديناصور الرهيب . أو حتى حيوان شرس وعظيم مثل الأسد ما يزال يرزح تحت سيطرة البشر ويشاهده أطفالهم في حديقة الحيوان . والكائن البشري بفضل عقليته المبدعة تمكن عن جداره في استغلال تقلبات الواقع وظروفه وامكانياته ، عناصره ، ومفرداته بعقليته المبدعة في أن يظل موجودا على قيد الحياة ، وأن يصبح قويا ويتحكم في جيرانه إلى حد كبير من الحيوانات والطيور والحشرات وحتى الميكروبات والفيروسات ، ويسخرهم لمنفعته ، أو يتقى آذاهم ، ويهيمن على كل شيء. والابداع في المجمل عملية عقلية يتفرد بها المخ البشري عامة . وتتضح مظاهرة البسيطة في بعض تفاصيل حياتنا اليومية حينما نجد أنفسنا وقد قدمنا حلا جوهريا لمشكلة عويصة مثلا ، أو تلك الريفية البسيطة التي تبهرك بقدرتها على معالجة المشكلات وتحقيق مبتغاها سواء في جلستها أمام الموقد في منزلها ، أو في علاقتها وتعاملها مع أولادها وأقاربها وجيرانها . وفي السياق التالي نعرض لتعريفات الابداع ، والاساس البيولوجي للإبداع ، ومراحل الابداع ، وسمات الشخصية المبدعة . أولا: تعريفات الإبداع تنوعت كثيرا التعريفات المحددة للإبداع ، منها ما يتعلق باعتباره القدرة على حل المشكلات بأساليب جديدة . أو باعتباره طاقة عقلية هائلة فطرية في أساسها ، اجتماعية في نمائها ، مجتمعية وإنسانية في انتمائها . أو باعتباره رؤية الاشياء المألوفة بطريقة غير مألوفة . أو رؤية ما لا يراه الآخرون . أو الاتيان بجديد أو إعادة تقديم القديم بصورة جديدة وغريبة . أو هو تنظيم الافكار وظهورها في بناء جديد انطلاقا من عناصر موجودة . أو هو القدرة المدهشة على فهم واقعين منفصلتين والعمل على انتزاع وضمه من خلال وضعهما جنبا إلى جنب . أو هو المبادرة التي يقدمها الشخص بقدرته على الانشقاق من التسلسل العادي في التفكير إلى مخالفة كلية . واخيرا نقبل بهذا التعريف الذي يحدد الإبداع باعتباره " حالة عقلية بشرية تنحو لإيجاد افكار أو طرق ووسائل غاية في الجدة ، والتفرد بحيث تشكل اضافة حقيقية لمجموع النتاج الإنساني ، كما تكون ذات فائدة حقيقية على ارض الواقع اذا كان الموضوع يتصل بإجراء تطبيقي . أو يشكل تعبيرا جديدا واسلوبا جديدا عن حالة ثقافية أو اجتماعية ، أو ادبية اذا كان الموضوع فلسفيا نقديا ، أو يشكل تعبيرا ضمن شكل جديد واسلوب جديد عن العواطف والمشاعر الإنسانية اذا كان الموضوع يتعلق بالإنتاج الادبي واشكاله " . ثانيا: الأساس البيولوجي للإبداع ربما يظل الامر مرتبكا حتى الآن من وجهة النظر العلمية بخصوص تحديد المناطق المسئولة عن الابداع في الدماغ ، لكن هناك الكثير من النظريات والعمل البحثي الدؤوب ما يزال مستمرا بهدف التوصل بدقة للمساحات المسئولة عن هذه النظرية الفريدة داخل الدماغ .ومن المعروف ان الدماغ البشري يتكون من منطقتين رئيسيتين هما: المنطقة اليمنى حيث الجانب الأيمن من المخ ويتحكم في تحريك الجزء الأيسر من الجسم ويتحكم أيضا في الوظائف المرتبطة بالانفعال والإبداع ، والحدس ، واستخدام الخيال والتأمل ، وكذلك القدرة على التخطيط ، وشمولية النظرة . المنطقة اليسرى حيث الجانب الايسر من المخ والذي يتحكم في تحريك الجانب الأيمن من الجسم ، وكذلك يكون مسئولا عن وظائف التفكير النقدي والتحليلي ، وضبط الكلام ، والمراكز العصبية التي تضبط الحبال الصوتية واللسان والشفتين . وترتبط هاتين المنطقتين من الدماغ معا بحزمة من الأنسجة العصبية ، ومن خلالها يتم دمج العمليات التي تحدث في المنطقتين معا بحيث يتكامل الادراك الحسي المرئي مع قرينه اللفظي السمعي لينتج رسالة واحدة ،أو تعلم مفيد . مراحل العملية الإبداعية تمر العملية الإبداعية في الإنسان بأربعة مراحل أساسية نجملها على النحو التالي : أولا: مرحلة الاعداد ، وهي مرحلة تتسم بالإحاطة وجمع المعلومات المتعلقة بالموضوع أو مصدر المشكلة . ثانيا: مرحلة الكمون ، وخلالها يستغرق الشخص في التأمل والتفكير سواء على المستوى الشعوري أو لا شعوريا في الموضوع ، أو مصدر المشكلة المطلوب لها الحل المناسب ، ويظل باله مشغولا ، وحواسه تقريبا تكون موظفة لا اراديا في اتجاه الهدف . ثالثا: مرحلة خروج شرارة الإبداع ، وهي مرحلة تسبق تنفيذ العملية الإبداعية مباشرة ويبدو الحل لدى الشخص بمثابة الومضة أو الشرارة التي ظهرت فجأة في اتجاه حل المشكلة ، وتعد بمثابة الوقود أو الطاقة التي سوف تتزامن مع تنفيذ العملية الإبداعية . رابعا: مرحلة التحقيق والتنفيذ ، وخلالها يقوم الشخص بتنفيذ الفكرة ، أو الحل ، أو القصيدة ، القصة والرواية ، أو اللوحة التشكيلية ، وفق ما استلمه أو توصل اليه اثناء المراحل الثلاثة السابقة . وللشخص المبدع قدرات وسمات اساسية تميز شخصيته ، رصدها علم النفس الاحصائي من خلال منهج التحليل العاملي إلى عدة عوامل اساسية حددت إلى حد كبير جملة القدرات المكونة للتفكير الإبداعي والتي تمثل في مجملها سمات الشخصية المبدعة. سمات الشخصية المبدعة أولا : الطلاقة تعرف الطلاقة باعتبارها القدرة على انتاج أكبر عدد ممكن من الافكار الإبداعية ، وتقاس بحساب عدد الكلمات ، أو الافكار التي يقدمها الفرد عن موضوع معين في وحدة زمنية ثابتة مقارنة مع افراد آخرين في نفس الظروف . وهناك انواع للطلاقة منها الطلاقة الشكلية : حيث يعطى الفرد رسما على شكل دائرة مثلا ويطلب منه إجراء إضافات على الشكل بحيث يصل إلى أكبر عدد من الأشكال المتعددة والحقيقية . وطلاقة الكلمات : وهي قدرة الفرد على الاتيان بأكبر عدد من الكلمات تنتهي أو تبدأ بحرف معين ، أو تقديم كلمات على وزن معين ، على اعتبار أن الكلمات تكوينات ابجدية مثال : اذكر أكبر عدد ممكن من الكلمات على وزن كلمة حصان مثلا ... وهكذا . وطلاقة الأفكار : وتتمثل في قدرة الفرد على الاتيان بأكبر عدد ممكن من الافكار المرتبطة بموقف معين ومدرك بالنسبة له ، كأن يطلب من الفرد الاتيان بإجابات للسؤال التالي : ماذا يحدث لو وقعت حرب نووية ؟ . والطلاقة التعبيرية : وهي قدرة الفرد على سرعة صياغة الافكار الصحيحة أو اصدار افكار متعددة في موقف محدد شريطة ان تتصف هذه الافكار بالثراء ، التنوع ، الغزارة ، والندرة . واخيرا طلاقة التداعي : وتتمثل في قدرة الفرد على الاتيان بأكبر عدد من الالفاظ التي تتوافر فيها شروط معينة من حيث المعنى وفي زمن محدد . ثانيا المرونة وتحدد باعتبارها القدرة على تغيير الحالة الذهنية بتغيير الموقف ، وهي عكس التصلب أو الجمود أو الاستمساك بنفس الوجهة الذهنية على الرغم من تغير الموقف أو المثير . وهناك نوعين من المرونة أولا : المرونة التلقائية : وتتحدد باعتبارها سرعة الفرد في اصدار أكبر عدد ممكن من الافكار المتنوعة والمرتبطة بمشكلة او موقف مثير . ويميل الفرد وفق هذه القدرة إلى المبادرة التلقائية في المواقف ولا يكتفي برد الفعل أو بمجرد الاستجابة . ثانيا : المرونة التكيفية : وتتمثل في قدرة الفرد على تغيير الوجهة الذهنية في معالجة المشكلة ومواجهتها ، ويكون بذلك قد تكيف مع اوضاع المشكلة ، ومع الصور التي تأخذها أو تظهر بها المشكلة . ثالثا: الاصالة ويمكن تعريفها على اعتبار انها الانتاج غير المألوف الذي لم يسبق اليه احد ، وتسمى الفكرة اصيلة اذا كانت لا تخضع للأفكار الشائعة ، وتتصف بالتميز . والشخص صاحب الفكر الأصيل هو الذي يمل من استخدام الافكار المتكررة والحلول التقليدية للمشكلات . رابعا: الحساسية للمشكلات وتتمثل في قدرة الفرد ادراك الخلل او النقص في الموقف المثير . والشخص المبدع يستطيع رؤية الكثير من المشكلات في الموقف الواحد ، فهو يعي نواحي النقص والقصور بسبب نظرته للمشكلة نظرة غير مألوفة حيث ان لديه حساسية أكثر للمشكلة أو الموقف المثير من المعتاد . خامسا: المحافظة على الاتجاه (المثابرة) وتحدد باعتبارها قدرة الفرد على الاستمرار في التفكير في المشكلة لفترة زمنية طويلة حتى يتم التوصل إلى حلول جديدة . وهناك عدة اشكال لمواصلة الاتجاه في التفكير الإبداعي مثل : أولا: المحافظة على استمرار التتابع الزمني والتاريخي في وصف الحدث بخط سير متتابع ومتدرج للفترة الزمنية التي يحدث وقتها الحدث . ثانيا: المثابرة الذهنية ، وتتمثل في قدرة الفرد المبدع على تركيز ذهنه ضمن نفس السياق منذ بداية المشكلة أو الموقف المثير حتى التوصل إلى الحل . ثالثا : المثابرة الخيالية ، وتعني قدرة الفرد المبدع على متابعة سير المشكلة ذهنيا وتوضيح العلاقة بين عناصرها . رابعا : المثابرة المنطقية ، وتعني قدرة الفرد المبدع في المحافظة على المنطق في خطوات السير والحل . سادسا:إدراك التفاصيل وتحدد بقدرة الفرد المبدع على تقديم تفاصيل متعددة لأشياء محدودة ، وتوسيع فكرة ملخصة او مختصرة ، او تفصيل لموضوع غامض . والإبداع كما ذكرنا خاصية انسانية ، وكل كائن بشري على ظهر الارض مبدع بطريقته حيث يتشارك بنصيب في بعض من هذه السمات التي ذكرناها ، لكن هناك افراد أقل من البشر لديهم النصيب الاعظم من هذه السمات الخاصة بالمبدعين ، وهم المبدعون الاصلاء ، حيث بأفكارهم ، وقدراتهم الخاصة تقفز الحياة البشرية على كوكب الارض قفزاتها الجبارة غير المحدودة ، وتتطور حياة الناس ، وتصبح أكثر يسرا ، وسلاسة ، وجمالا ، وتشوقا ، وامتاعا .. وكل ذلك بفضل المبدعون من البشر . د. احمد الباسوسي روائي ومعالج نفسي