هي المرأةُ التي طالما حاولتُ ألاّ أكونها! سيدةُ الدروب القسرية, فكيف لي أنا امرأة الدروب التي لا تكتمل, أن يتقاطع مصيري معها؟! هي التي شاركتُها الوجود عبر حبلٍ سريٍّ, فكانت أكثر أسباب حياتي التصاقاً بي.. فهل كان غدراً مني ألاّ أكونها؟! أسموه قدراً, لكنّه لم يكن أكثر من عاملٍ ذي قلبٍ باردٍ يسكن العراء, ويدير عمل سكك الحياة الحديدية. لستُ متحاملةً عليه, ولكن ما معنى أنني كلما تجاوزتُ منتصف طريقٍ, ينعكس اتجاه السير بي فجأةً, لأجد نفسي عند نقطة الصفر أو ما قبلها؟! سهمه اخترق القلب.. لم يمِتْهُ, بل حوّلهُ إلى كتلة قابلة للنزف سرعان ما أكتشفُ أن حجمها يتضاءل, وأن ما بقي منها لن يصمد طويلاً. هما العينان ذاتهما الضّاجتان بالبراءة والرعب والذهول, فهل سبق لأحدٍ أن رأى عينين قادرتين على رسم كل هذه التعابير على سطحهما الغارق بالدموع؟! لعلّ طفلي الذي لم يبلغ من العمر إلاّ سبعاً لم يصدّق قولي: "أنا مسافرة خارج المدينة للعلاج".. لعلّه ارتاب بالكلمات المضطربة وهي تصطك داخل فمي. حاولتُ ألاّ أرى الرعب في عينيه, وكثيرٌ من الهدايا والحلوى لم يمنعه من التعلق بي, ليودّعني بقبلةٍ ولا أشهى.. طالباً مني ألاّ أتأخر. "سأحاول يا صغيري" كلماتٌ بيضاء كاذبةٌ علّقتُها بخيطِ انتظارٍ, وتركتُها بين أصابعه طائرةً ورقيةً يُطلقها في أعالي رجائه, وريثما تحطّ على الأرض, يحدثُ كلّ ما كان سيحدث, ويعلم أن تذكرة سفري كانت صالحة لمرة واحدة فقط! حين ودّعتُه, انغرزت روحي في بؤبؤيه اللامعين. انفلتت عقدة أكفان الماضي, وخرجت أشباح الذكريات تتربص بي. نظرة رعبٍ وذهولٍ وبراءة.. صوتُ بكاءٍ يُغرِق الأمتار الخمسة التي تفصل أمي عن باب البيت.. طفلٌ يركض, ويد صغيرةٌ تمسك بذيل الثوب المندفع خارج الباب! "ارجع... هيّا عدْ إلى الغرفة.. الجو شديد البرودة" يتهدج صوت المرأة متعثراً بإحساسٍ عارمٍ بالذّل والمهانة, وكلمات الرجل الغاضب تدفع بها إلى الشارع لا تملك إلا ما عليها من ثياب, وجعبةٍ مليئةٍ بعمرٍ مقطّع الأوصال حاولتْ أن تبعدهُ عن أيّ هزّة قد تودي به, لكن عامل السكك الحديدية شاء أن يغيّر اتجاه السير! لم أعرف امرأةً أكثر منها زهداً بمباهج الحياة وملذاتها! مازال كعب حذاء جدتي المدبب يحفر في رأسها منذ سنين وسنين. كلّ ما قالته ذات ماضٍ إنها لا تريد ذلك القريب زوجاً.. ثم غابتْ عن الوعي.. ولأنها سيدة الدروب القسرية, خرجتْ عروساً بلباس أسود, وبكثير من الصمت والدموع. كم عانتْ بعد ذلك؟! هي نفسها ما عادت تدرك الفرق بين ألمٍ وآخر.. بين حزنٍ وآخر, لكنّها تدرك جيداً أنّ ما ألمّ بزوجها, لم يكن لها يدٌ فيه! "نوباتٌ هستيريةٌ ناتجةٌ عن صراعٍ نفسيّ أو ظروفٍ صعبةٍ يمر بها" كان هذا تشخيص الطبيب المختص, والذي لم يُقنع أهل الرجل, الذين أصرّوا على اتهامها بالقيام بعمل من أعمال السحر لولدهم! ربما دسّتْ حجاباً في قبرٍ قديم.. أو ألقتهُ في بئر مهجورة.. أو لعلّها سقتهُ شيئاً ما, إذ أكّد الزوج أنّها قدمتْ له كأساً من الشاي بنكهة مختلفة قبل أيامٍ من وقوعه صريع النوبة الأولى. ولم تنقذها كلّ الأيمان الغليظة بأن تلك النكهة ما كانت إلا بعضاً من قرنفلٍ أضافته إلى الماء, فوجدت نفسها خارج عمرها. عادتْ.. وما كان أمامها إلا أن تعود لترممَ ما تهدّم في بيتها وفي قلوب صغارها, وتحاول من جديد لمّ ما تبعثر من علاقتها مع الزوج المريض الذي انفضّ الجميع من حوله, تاركين له مرارة الوحدة وأعباء العناية بأريعة أطفال قاصرين. مثل كل النساء اللواتي يحترفن الصمت كرهاً وقسراً, ويحفرن لأحزانهن آباراً بعيدة الغور, لا تستسلم لمضخات الفرح بسهولة.. تابعتِ السير على دروبها القسرية. لم تكن دفاتر عينيها خاوية, بل متخمة بسطور متلاصقة من الأوجاع. وبحزنٍ يطبق فكّيه على الدموع ويبتلعها تاركاً في القلب قبراً مفتوحاً لميتٍ بلا جسد: ذكريات ألمٍ تعفّن في سلة القلب, فشدّتْ عليه قماشاً مبتلاً بحرائق, وألقتهُ في العمق. من غيري يعرفُ ما تختزنهُ تلك المرأة من أحزان؟! من غيري يدركُ عمق الدموع الجوفية في باطن مآقيها؟! فهل أقوى الآن على الوقوف أمامها دون أن أثيرَ عاصفةً في رمادها؟! فلماذا يُعيد الوقت فصوله؟ لماذا يتكرر الرعب والعيون المذعورة؟ هي التي كنتُ أهرب منها.. أحتجُّ على ضعفها.. أُنكر استسلامها وخضوعها.. وأمام ابتسامتها الشاحبة كنتُ أرفعُ شعارات التحرر والمساواة.. فكيف لا تنفتحُ بواباتُ عينيها رعباً وذهولاً وهي تتأملُ حقيبةً في يدي ألقيتُ في داخلها كلّ الدروب التي لم أتمكن من بلوغ نهاياتها.. وبكاءَ طفلي.. ويديه الممدودتين نحوي! وبقوةِ من واجه خسائر العمر كلّه, فما عاد يملك ما يأسفُ لفقده.. وقفتُ أمامها! دموعٌ تزخرفُ أهدابها مثل حبات مطر تتشبثُ بنهايات أوراق السنديان المتعرجة.. تتدلى لتعكس شعاعات الشمس الصباحية حقلاً من أقواس قزح.. فتحتْ ذراعيها.. خبّأتني بين ياسمين حنانها. أردتُ أن أتحدث, لكن الكلمات فرغت من محتواها كدواءٍ انتهت مدة صلاحيته, فما عادت عبارات المواساة قادرة على تسكين صداع القلب.. فلماذا كلما آنستُ ناراً يزمجر الصقيع؟! هي المرأة التي تشبه كل النساء.. والتي جاهدتُ نفسي ألاّ أكونها.. أستسلم لفسحةٍ من النرجس في صدرها عندما تخونني الأشياء مع حضور الغياب.. لأصلّي ركعتين من سلام.