" أصعب غُرْبَة يا صاحبى ... لما تعيش بين أهلك ، وكأنك شخص غريب ..." أتذكر محمد نصر يس كثيرا ، أتذكره فى اليوم الواحد ربما مراتٍ كثيرةً !،لا علاقة لذلك بموته وإنما هذه حالى معه حتى فى حياته ، وياللعجب أن يحدث لى ذلك وأنا الذى لا أدعى أننى كنت ألصق أصدقائه وتلامذته به ، لا زوال لهذا العجب إلا بأن تكون هذه الحال هى حال خاصة به لا علاقة لها بشخصى أعنى أن يكون كل من يعرفونه ذاكرين له تماما كما يحدث معى ، وكلما تذكرته قفزتْ فى غرَّة التذكار تلك الكلمات السابقة والتى هى مقطع من قصيدة كتبها الشاعر حمدى منصور، .. فى إحدى جلساتى مع حمدى منصور فى بيته الكائن بحىّ مدينة العُمّال بقنا ، كان حمدى منصور رائقا على غير العادة وبلا مناسبةٍ أو مقدمات وقف بغتةً وقال لى : " تسمع قصيدة محمد نصر ؟" وافقتُ بالطبع فحمدى منصور فى العادة لا يستجيب إن طلبتَ منه أن يقولَ شعرا ولو ألححت يعرف عنه ذلك كل من يعرفه ، أخرج من درج مكتبه كراسةً كاملة وراح يقرأ القصيدة ، كانت من أطول ما سمعتُ من القصائد اتّخَذَ فيها من اسم محمد نصر يس مفتاحا أو قل بوابةً راح يلجُ عبرها صائلا جائلا إلى كل ما يمكن وما لم أكن أظنه ممكنا أن تتناوله قصيدة واحدة عنوانها اسم شخص ، تكلم فى القصيدة عن القصيدة والشعر ، عن الصدق والصداقة ، عن الإنسان القنائى والإنسان بصفةٍ عامة ،عن الفقر والجهل والمرض ،عن القبيلة وحال البسطاء ، عن حلم الإنسان بالحرية والانعتاق وسعيه الدائب نحوهما ، وعند المقطع الذى صدّرتُ به السطور " أصعب غربة يا صاحبى ، لما تعيش بين أهلك ، وكأنك شخص غريب " عند هذا المقطع راح حمدى منصور يهزُّ ساقه بعصبيةٍ وقوة أشفقت معها على ساقه النحيلة وخفَتَ صوته ، خفت صوته حتى إننى كنتُ أسمعه بالكاد وربما رأيت دموعا فى عينيه السخية بالدمع المضنى ،لا أدرى أى هاتفٍ داخلىّ هتف بى ساعتها أن هذا المقطع الصادق هو بيت القصيد ،مسنى بل دخلنى بلا استئذان وقد هيأتنى لذلك الطريقة التى تلاه بها حمدى ، ومن ساعتها رحت أتابع محمد نصر يس على هدى من المقطع، أى غربةٍ يحياها هذا الرجل الذى يمنح وجودُه الإحساس بالوطن ؟؟ يا لله ،! إن الرجل فى صخبه إنما يحاول " الغَلْوَشَةَ " على إحساس الغربة الذى يملؤه ،يحاول بصوته الجهورى الصاخب ، ب " القَفَشَات" التى كان بارعا فى اصطيادها ، بسخريته اللاذعة خصوصا من المدعيّن والزائفين وتلك صفةٌ من صفاته تبدو حتى لمن لا يدقق ، فبقدر حبه للحقيقيين ورغبته فى رعايتهم وحدبه عليهم كان ضيقه من المدعين ، أذكر مرةً أن وافدا جديدا وفد على ندوة قصر الثقافة التى كان يديرها وقد ارتدى هذا الوافد بدلةً كاملة وحمل حقيبةً مكتظة وطلب أن يلقى قصيدة فور جلوسه ، مال على حقيبته المكتظة وأخرج القصيدة وقرأها فلما أحس أنها لم تَرُقْ الحضور قال : معى قصة ثم مال على حقيبته المكتظة ثانية وأخرج القصة وقرأها فلما وجد فى الوجوه عدم الرضا قال : معى دراسة ومال على الحقيبة ثالثةً وأخرج أوراقا وراح يقرأ منها وسط ملل الحضور ، كانت العيون معلقةً بمحمد نصر فى انتظار تعليقٍ سنضحك بسببه أياما وأثناء ذلك ظهر فى الباب أحد العُمّال مستأذنا فى الذهاب لشراء سندوتش فما كان من محمد نصر إلا أن اندفع " أستنا يمكن نلاقيلك فى شنطة الأستاذ فلان " لتضج الندوة بالضحك المنتظر . كان محمد نصر يس يحاول أن يعالج غربة روحه بالضحك ، بالحركة الدائبة ، بالتنقل بين الأماكن وربما لهذا السبب كان تنقلُه بين مجالات الإبداع والعمل من القصة للمسرح للتمثيل لكتابة السيناريو ، ثم بالخصيصة الأبرز فى شخصه وهى التماس والالتحام مع حيوات الآخرين ومشاريعهم وحيواتهم الخاصة ، فمع حيائه الشديد الذى لا يلحظه إلا مدقق بصير ، نعم كان حييا شديد الحياء كشأن أبناء الصعيد والقرويين منهم بصفة خاصة ،ومع هذا الحياء كان إذا قدمت إليه شخصا لا يعرفه سرعان ما يتواصل معه فلا تنتهى الجلسة إلا وقد دار بينه وبين هذا الشخص حديثٌ جانبى ّ أتاح لهذا الشخص أن يحكى حالا عن نفسه مؤرقا فلا تسمع من محمد نصر يس إلا وعدا بلقاء قريب يتيح لكليهما حديثا متأنيا عن هذا الأمر المؤرق وبحثا له عن حلول ،.. وفى ظنى أن كل ذلك لم يدفع عنه غربته ، فقط كان يوارى إحساسه بها ، فعاش كالصوفىِّ منصرفا عن حياته الخاصة بمواراتها وتهميشها والانغماس فى العام ، الانغماس فى حيوات المريدين وإخوان الطريق والسالكين الذين يحاولون الخُطى الأولى ، كأنه كان يخشى أن يجد فراغا من الوقت وفائضا من الجهد فتخلو به غربتُه التى تلف روحه وتحتلها جميعا .. والحق أننى حينما فكرت فى الكتابة عن " محمد نصر يس " لم يَدُر بخلدى أننى سأكتب هذه السطور السابقة وما فكرت فى كتابتها بل بدأت تلك البداية التقليدية والتى تعنى عادةً النظرَ فى المنجزِ الإبداعىّ لمن تريد الكتابة عنه ، ورغم المساحة العريضة التى يشغلها اسم الرجل فى وجدانى الأدبىّ وربما فى وجدانات أجيال أدبية قنائية كثيرة حوالىّ جيلى ورغم حضوره الثقيل الفاعل فى تشكيل وعينا وفتح عيوننا على أفاق الثقافة والإبداع الرحبةِ اللامتناهية لم أجد له سوى عدد متناثر من القصص لعل أشهرها قصته ذائعة الصيت " نخلة هيد " ثم مسرحيته " دياب ملكا" ، إذن مالذى فعله محمد نصر يس ليكون حاضرا لدينا هذا الحضور الذى لا ينافسه فيه سواه؟ مالذى يجعلنى أنا مثلا أعتبره أستاذا من أساتذتى الأوائل أصحاب الفضل الحقيقيين ؟ شُغلت بهذا السؤال حتى عن الكتابة عنه ورحت كعادتى أحاول البحث عن إجابة وسرعان ما اكتشفت أن إجابةً عن هذا السؤال قد تصلح لتكون كتابةً صادقةً عن محمد نصر وتفسيرا لظاهرة يمثلها تنتشر ربما فى كل أقاليم مصر ، فتراءت لى أولى مرات دخولى للندوة التى كان يديرها بقصر ثقافة قنا القديم تلك الندوة التى كانت زاخرةً بالأصوات الثريّة والقضايا الحقيقية والمحاولات الجادة لصنع حراك ثقافى فى ذلك الإقليم البعيد ، دخلت هذه الندوة لأول مرة ربما فى أواخرعام 1988 ، ورأيته ، كأنه تمثال فرعونىّ خرج لتوه للوجود ، لم يُنفَض بعدُ غبار إزميل النَّحّاتِ المُتقِنِ عن ملامحه الجرانيتية ،طويلاً فارعا ذا سمرة نحاسية حادة ، هو للضخامة التى لا تعنى البدانة أقرب ، كان أكبر الحاضرين سنا ، الفارق بينه وبين من يتلونه فى العمر فارق كبير ، كان يدير تلك الندوة التى يجلس فى صفها الأول الشعراء فتحى عبدالسميع ومحمود مغربى وأمبارك ابراهيم ومحمد حسن على والقاص فتحى سعد رحم الله كل الراحلين على أن مكان فتحى سعد بصف الندوة الأول كان خاليا فى أغلب الأوقات ثم صف يجلس فيه الناقد خير سليم والسارد محمد صالح وفى صف قد يكون الأخير فى هذا الترتيب أكون أنا بين البولاقى وعبدالرحيم طايع ،ثم تلانا فردا جاء أحمد الدقر وبين الحين والآخر ينضم الشاعر عطية أحمد حسن والشاعر سيد خضير ، لم تكن علاقتنا به ولا علاقتنا ببعض تنتهى بانتهاء وقت الندوة كانت كل أوقاتنا ندوات ، من النادر النادر أن يُتلى نص فى هذه الندوة لمحمد نصر يس لكنه كان حاضرا فى كل تلك النصوص على لسانه ترد الأسماء الكبيرة فى عالم الأدب على المستوى العربىّ والعالمى ومن خلاله نسمع عن قضايا ومذاهب نسمعها لأول مرة فإذا وجد شغفا من أينا باسمٍ أو بقضية أرشدنا إلى الكتب أو أعارنا من كتبه الخاصة ولعمرى كيف تكون الأستاذية إن لم تكن كذلك الذى كان يصنعه الرجل ، كان إخلاصه لمشاريعنا يوازى وربما يفوق إخلاصه لمشروعه أو بالأدق كانت مشروعاتنا ربما دون قصد منه تمثل مشروعه الذى يخلص له ويبذل جهده ووقته ليس بالندوة فحسب لكن فى كل الأوقات تقريبا ، نذهب إليه بمكتبه بمديرية الرى بقنا وفى شقته بشارع المينا ، وببيت عائلته الكبير بقرية الحميدات التى صارت جزءا من المدينة إذ لا يبخل بوقته المشغول أصلا بلقاء أبناء العمومة فيأخذنا معه يناقش فى وجودنا أمور العائلة والقبيلة بلا أدنى تحفظ وكأننا بعضه المحسوب عليه نسمع ونشارك الكل الحديث والطعام والقهوة ثم فى الأمسيات التى تقام بكثافة فى كل قرى ومدن قنا المترامية حيث طريق الرحلة ذهابا وعودة دائما طويلا ودائما حافلا بأصواتنا الصغيرة تتجاوب مع صوته الجهم وهو يلقى بالنكات ويحكى النوادر والطرف ، من خلال محمد يس عرفنا كيف تصنع السينما فهو الوحيد بين من نعرف الذى شارك بالتمثيل فى فيلم سينمائى هو " الطوق والإسورة " رواية العبقرى يحيى الطاهر عبد الله ، أيامها كنا نقارن بين أدائه وأداء المحترفين فنظلم الرجل ، لم نكن ندرك أنه يقتحم مجالا لم يكن يعرفه إلا حكيا أو قراءةً ، مجالا لم يكن أبدا من مكونات ثقافته فضلا عن أن يبدع فيه لكأنه كان يلفت نظرنا أن هذه المجالات وهذه الأبواب يمكن أن تطرق فلا يقعدنا عن التفكير فى اقتحامها بعدنا عن العاصمة المهولة ، كيف تكون الريادة إن لم تكن هكذا ؟ سألناه عن فتاة أحلام كل الشباب وقتها " شريهان " وحسدناه علانية وسط ضحك صاخب أنه حملها على زنديه القويين فى مشهد من مشاهد الفيلم فعلق ليمعن فى الإغاظة أن هذا المشهد تحديدا أُعيد مراتٍ ومرات ، فى بيته رأيت لأول مرة ورقا لمحاولة فى كتابة السيناريو فانطبعت فى ذهنى طريقة تقسيم الصفحة ،لكأنه كان يقود خطواتنا الهيابة المرتعشة لتلك الأحراش المخيفة التى يسخر الساخرون من مجرد إعلان رغبتنا فى الحديث عنها وعن تقنياتها ، من خلاله عرف كثيرون معنى أن يكون للكاتب أيدولوجيا تنظيرا وتطبيقا وممارسةً وهو اليسارىّ العتيد فى كتابته وانتمائه الحزبىّ ،لقد كتب محمد نصر يس القصة والمسرحية وأطلعنى فى حياء على محاولات فى شعر العامية كما حاول كتابة السيناريو كأنما كان يرشدنا بمرور أول إلى مناطق الإبداع ومجالاته ، كان الوقت ضيقا لم يتح له أن يبدع كمّاً مؤثرا فى مجال ما ، وهل يتسع وقت وجهدٌ مهما كان لكل هذا الذى ذكرت من الندوات إلى الأمسيات والاحتفالات والأنشطة إلى ندوات الحزب والسفر الدائم مابين القاهرةوقنا والقرى والنجوع حولها ثم رسالة توجيه الشباب واستقبالهم فى بيته هل يتسع لرجل هو فى النهاية موظف لم يكن كبيرا بمديرية الرىّ وعليه أن يرعى أسرة صغيرة ويقود عائلةً كبيرة بما يفرضه ذلك من الأعباء الاجتماعية ما لا يعرفه إلا أمثالة ممن ينتمون لقبائل ويُعدون من أصحاب الرأى فيها، كان محمد نصر أحد أبناء قبيلة الهوارة المترامية على طول قنا وماحولها من البلاد ، ولعل قلائل يعرفون ما يفرضه هذا الانتماء من أعباء ينوء بحملها المتفرغون ،...لكن ما معنى كل هذا وما قيمته إن كانت له قيمة؟ ما قيمته وقد وراى جسد محمد نصر يس التراب ؟ هل انتهى كل هذا بمجرد غياب الجسد ؟ أين ذهب إذن ؟ هذه أسئلة انبثقت وتشظت عنها أسئلة أخرى كثيرة حيرى وأنا أحاول الإجابة عن السؤال الأول ، كان لابد من إجابة لكنها بدت صعبةً صعبة ، ما قيمة كل هذا ؟ ومضيت بالسؤال تاركا للوقت وإمعان النظر أن يرشدانى للإجابة ، وحدث أن دُعيتُ إلى حيث يُقام مولدٌ لأحد أئمة التصوف المشهورين والسؤال فى رأسى ملحاً ينبهنى لوجوده بين الحين والآخر بحضور مباغت لدقة ناقوس تبزغ ثم تتلاشى ذائبة فى زحام الأصوات والمشاهد ، رأيت أتباع صاحب المولد وقد أتوا من بقاعٍ شتى كأنهم أبعض الإمام تتجمع ليقف شامخا مجسدا فيهم وهم يحجلون فى يومه بالبيارق يتمثلون حياة الإمام ويرددون مآثره وأقواله وما قيل عنه فى حلقات صغيرة تنبت ثم سرعان ما يذوّبها الازدحام، رأيت الإمام الراحل فى كل المريدين والدراويش لكأنهم جميعا ليسوا إلا منجزات له وسألت عن منجز مكتوب للإمام فلم أجد هنا اصطدم السؤال الذى أتيت به بحجر الإجابة المتضحة وقادنى التفكير فى ذلك الإمام المتصوف الذى حضرت مولده إلى الأنبياء صلوات الله عليهم ، إن أصحاب الرسالات لا يتركون كتباً ، بل يتركون أثرا فيمن يكتبون الكتب ويؤلفون المؤلفات ، هؤلاء الذين أتوا إلى مولد الإمام الراحل يحملون رسالته بعضه فى القلوب ، ويحملون البيارق والأعلام فى الأيدى يحجلون بها مؤكدين على بقائه فيهم هؤلاء هم مشروعه ومنجزه الأهم ، هل وعى محمد نصر يس ذلك وعمل له ؟ حدث ذلك على كل حال معى ومع كثير ممن أعرف ، فهل يكون من الواجب علينا أن نحذو حذو أتباع الإمام الصوفىّ الذى حضرتُ مولدَه ونفعل كما يفعل الدروايش والتلاميذ فى يومه ؟ الإجابة فى رأيى نعم لكن بوسائل وعلى هيئات تناسبنا ، ساعتها نكون قد أدينا ما علينا تجاه أستاذنا محمد نصر يس وتجاه أنفسنا لأن ما فعله بكل تأكيد له من الأهمية والقيمة والفاعلية ما يستحق أن نحمل من أجله وأجلنا بيارقه ونحجل تأكيدا على بقاء عطائه وامتداده فينا ..