السيدة نجاة إِدْهان..سيدة تونسية متفائلة، تعمل أستاذة للغة والأدب العربي.. متزوّجة..علاقتها بالكتابة عميقة، تقول: "أشعر بعلاقة غريبة، تشدّني إلى الحروف، ربّما كانت هذه بداية علاقتي بالقراءة والكتابة..أشعر أنّ روحاً تسكن الحروف، وكلّما صيغت جملاً، شكّلتْ حياة جديدة..لذا أومن أنّ للكاتب دوراً هامّاً، بإمكانه أن يحرّك كلّ القيود، التي تقتل الإنسان..الكتابة مشروع حياة..نشرتْ مجموعة قصصيّة أولى بعنوان:" هذا ليس لك.." هي بين حلم الأطفال، ووجعهم، بين ألم المرأة، ووجع الزهايمر والوطن. الأستاذة نجاة ادهان، شخصيتها متزنة، وإجاباتها بالحوار موضوعية، ومعبرة ودقيقة، تعرف جيداً ما تريد قوله، وما لا تريده، كعادتي مع كل من التقيهن من السيدات، كان سؤالي الأول لها هو: @ من هي الكاتبة التونسية نجاة ادهان؟ نجاة ادهان، سيدة تونسية، تعمل أستاذة للغة والأدب العربي، متزوجة، كاتبة بحق وحقيقة، وتعشق الكتابة، تؤمن بأنّ الإنسان خُلق ليسمو بكلّ ما حوله، وبأنّ جوهره هو قلبه النّابض أبداً، وأنّ للحياة وجوها كثيرة، تشترك جميعاً في معنى الاستمرار وإثبات الحقّ في الوجود. @من هو في رأيك الشخص المثقف؟ وهل كل من حمل شهادة علمية شرط هو مثقف؟ ومن لا يحمل شهادة علمية جاهلاً وأمياً؟؟؟ (سواء رجلا او امرأة)؟ لا يمكن الحديث عن شخص مثقّف، غير فاعل في المجتمع الإنساني، وهو ما يجعل هذه الصّفة، أكبر من التّحصيل العلمي بكثير. التحصيل المعرفي، عامل مساعد يمنح المثقّف آليّات التفكير، والعمل، والتواصل، ومتى اكتفى به للوظيفة، أو انزوى في برج عاجيّ، فقد هذا النّعت دلالته. على المثقّف أن يوظّف ملكاته، لفهم ما يحيط به: مكامن الخلل، والبدائل الممكنة، لتجاوز واقع مجتمعه، دون أن ينخرط في لعبة القيادة والولاء الأعمى، إذ عليه أن يقتنع، أنّ من يخاطبهم، قادرون على الفعل بأنفسهم، متى أدركوا سبيل الإصلاح، وأنّه ليس له أن ينصّب نفسه مرشداً دائماً، أو مقرّراً لا يُردّ رأيه..دور المثقّف أعمق بكثير من اكتساب المعارف، أو مجرّد الانتساب إلى النّخبة. @ ما هو دور المثقّف في مجتمعه خاصّة، وعلى صعيد المجتمع العربيّ الواسع؟ كما ذكرت سابقاً، على المثقّف أن يكون فاعلاً مباشرةً، لا بالتنظير وتأليف الكتب. على المثقّف أن يكون قريباً من واقع مجتمعه، وأن يدرك علّة الخلل، وأن يكون قادراً على تقديم بديل ينبع من خصوصيّات المجتمع، لا مجرّد بديل ممجوج، يعيد إحياءه من تجارب مجتمعات أخرى، لأنّه "حفظه" من جملة ما طالع، أو درس..حين يهرب المثقّف إلى ربوته، يفقد مبرّرات وجوده، لذلك يفشل بعضهم حين يتقلّد مسؤوليّة ما، لأنّه يفاجأ بأنّ الذّهن لم يتغيّر، وأنّه ليبلغ البديل، كان عليه أن ينطلق من مرحلة أساسيّة، هي "بناء ذهن الفرد"..هذا "الاكتشاف" المفاجئ، هو ما يوسّع الهوّة أكثر، فيجعل المثقّف يرى الآخر قاصراً فكريّاً، ويجعل الإنسان "العاديّ" يرى المثقّف منظّراً، أو حتّى حالماً، لا يشبهه في شيء..الدّور إذن توعويّ بالأساس، نحتاج إلى بناء فكر يؤمن بالفعل والقدرة على العطاء، دون "حسابات ضيّقة" وضرورة احترام المشروع الجماعيّ، دون قتل صوت الذّات..معادلات تحتاج إلى هدم وإنشاء جديد، ولن تتحقّق ما لم نؤمن بها، وبأنّها ضرورة وليست خياراً مسقطاً. @ ما هو تقييمك بشكل عامّ، لدور المثقّف العربي في مجتمعه، وهل حقّا يقوم بواجبه أم أنّ دوره يكاد يكون غير ظاهر للعيان؟ قد يفاجئك رأيي..لو كان المثقّف حاضراً في مجتمعه، ما كنّا لنبلغ ما نحن عليه الآن..تراجع فكريّ كبير، يقابله وجع إنساني أكبر. النّاس قتلتهم استقالة المثقّفين، أو تراجعهم في مواجهة السّلطة، أو حتّى يأسهم من إمكان التّغيير، فتركوا الإنسان يواجه كلّ أشكال الوجع وحده..بِم يمكن أن نبرّر استفحال وجوه الفساد، والتسلّط، والتهميش، إن لم تجد السّلطة (بكلّ وجوهها وأشكالها) نفسها طليقة اليد، لا أحد يقف في وجهها؟ المثقّف الواحد لا يمكنه أن يغيّر، على المثقفين جماعةً، أن يؤمنوا بدورهم، أو يكونوا أصحاب مشروع واحد، وهو ما يبدو عسيراً، باعتبار تشبّثهم بالتفاصيل، وبالمرجعيّات، ولهيمنة التنظير على أفكارهم، وهو أمر لا يمكن نكرانه، لكنّه يصبح ثانويّا متى قورن بحالة الإنسان في مجتمعاتهم..هذا الغياب والتّغييب، هو الذي جعل الإنسان يغيّبهم، وهو يتحدّث عن واقعه، فيقصر حديثه على المواطن والسّلطة..كأنّ النّوع من المثقّفين قد اختار التّغييب، وعدم المواجهة المباشرة، أو لعلّهم هكذا يفهمون دور المثقّف.. من خاضوا صراعهم كاملاً، من المثقّفين وهم قلّة غيّبتهم السّلطة بالسّجن، أو القتل، أو التقزيم، وتواطأ معها بعض من باعوا فكرهم وخيّروا الولاء والسّلامة. @ما هو رأيك في المثقّف العربي بشكل عام؟؟ وفي الغزل مع السّلطة الحاكمة، ومحاولة نفاقها ومهادنتها وخدمتها والدّفاع عنها، وهل هذا العمل مقبول منه؟ نتّفق أوّلا: التعميم خطأ، لذلك سأقصر كلامي على من يهادن السّلطة وهم كثر للأسف، خاصّة في السّنوات الأخيرة اختاروا هذا التواطؤ، لأنّه أسلم، ولما يمنحهم من وجاهة اجتماعيّة، باعتبار أنّهم يقدَّمون على أساس القدرة على الفعل، في المجتمع، فيتوهّمون ويتوهّم كثير من أبناء أوطانهم هذا، ويتصدّرون الإعلام والاحتفالات، ويوظّفون قدرتهم في الخطاب، والإقناع، لخدمة السّلطة، وربّما أكثر من هذا يحوّلون كلّ قدراتهم الفكريّة، لتمجيدها بكتابة الكتب والمقالات، حدّ تغيير حقائق كثيرة، وهو أمر خطير يمسّ تاريخ الأوطان، ويزيّف الواقع، فيعيش المواطن ممزّقاً بين ما يحياه، وما يمرّر في الإعلام، أو ما يتحدّث عنه هؤلاء في المؤتمرات واللقاء، داخل الوطن وخارجه، ومداره جميعاً أنّ الواقع جنّة الله في الأرض..كلّ هذا خيانة للإنسان وللوطن، وأستغرب جدّا أن يحاول هؤلاء الآن، الظهور بمظهر المثقف الواعي، الذي يدرك واجبه ويسعى إلى القيام به، لكنّهم سرعان ما يعودون إلى "ثقافة الولاء"..سطوة الخطاب عند هؤلاء سلاح قاتل، خاصّة متى تواطأ معهم الإعلام.. اللعبة ذاتها، إذن وبذات الوجوه، لذلك أستغرب كيف للنّاس تصديقهم، ومن أين تأتيهم الوقاحة، للظهور أمام النّاس بمظهر الواعي النّاقد؟ @ما هي أزمة المثقف العربي التي يعيشها ويعاني منها ولماذا لا يظهر بالسّاحات العربيّة بكلّ قوّة وهمّة وعزيمة ونشاط؟ أزمة المثقّف في عدم وفائه لدوره، في إعلائه خيارات ذاتيّة، على خيار المواجهة: مواجهة السّلطة، ومواجهة كلّ أشكال التغييب، والنقص الفكري، الذي تسعى السلطة إلى نشره في برامج التّعليم، وآليّات التقييم، وفي الإعلام أيضا..صار للمثقّف دور آخر ساهم في التّمييع، وهو ما نراه في كثير من الأعمال الفنيّة، وفي تبرير كثير من وجوه التفاهة، ودخول لعبة المال مقابل الفكرة، وإذا ما أدركنا درجة التمييع التي يعيشها المواطن، فهمنا سبب انتشار ثقافة السّخف، في وطننا العربي بسرعة..هي أكثر راحة وأقلّ جهداً، وأكثر ربحاً، والطريق الأقرب إلى تدمير العقول..الآن سنحتاج إلى استعادة الثقة في هذا النوع من المثقفين، واستعادة المواطن نفسه، بعيداً عن قوانين السّوق والمتاجرة به، لنبدأ العمل فعلاً.. المتاجرة بالإنسان صارتْ حرفة، كثير من أبناء أوطاننا..الإيمان بالمشروع سيكون دافع الحضور والفعل، لكنّه يحتاج إلى جهد وصبر كبيرينن وكذلك إلى الصدق، وهو ما يغيب أحياناً ويظهر مثلاً في انتقاء من يظهر إعلاميّاً ليخاطب النّاس. @هل تعتقد السيّدة نجاة أنّ المثقّف التونسي قام بدوره في الثورة التونسيّة التي أطاحت بزين العابدين بن علي على أكمل وجه أم أنّ دوره لم يكن واضحا وجليّا؟ "على أكمل وجه" هي محلّ نقاش كبير.. لا أراه قد فعل للأسباب التي ذكرت سابقا من علاقته بالسلطة وبعده عن الواقع المعيش وكثير من الأسباب غيرها لكنّني لا يمكن أن أنكر دور البعض ممّن آمنوا بدورهم.. ربّما لم تكن علاقتهم بالمواطن مباشرة لتآمر السلطة والإعلام عليهم لكنّهم لم يتراجعوا رغم ما عاشوه من وجع وضغوطات. يحزنني الآن أنّهم يُغيّبونهم أيضا وأنّهم ينحتون صورة مثقّف بأسماء قديمة.. هي إعادة رسكلة لا أكثر حتّى أنّهم قصروا حريّة الفكر على حريّة التعبير بما هي تقزيم وسبّ لا علاقة لهما بالنّقد البنّاء، وهذا ما يجعلني أشكّ في حقيقة التغيير.. الوطن لا تبنيه الثرثرة والبطولات الواهمة.. @هل تعتقد السيّدة نجاة أنّ المرأة المثقّفة التونسيّة كان لها دور مساو للمثقف الرّجل التونسي، أم أنّهما كانا مشاركاً واحداً ولا يمكن تمييز أحدهما من الآخر، أو فصل أحدهما عن الآخر بهذا الخصوص؟ طبعاً، لا وجود للتمييز، فدورهما واحد، والفرق يتبدّى في درجة وعي أحدهما بما يحيط به، وبضرورات المرحلة التي يحياها وطنه. كانت الأصوات قبل الثورة قليلة ذكورية ونسويّة، أمّا الآن، فالأصوات كثيرة، لذلك علينا أن ننصت إلى الصوت، ثمّ نتحدّث عن مثقّف ومثقّفة..المثقّف أداته الفكر، وهذا هو الفيصل. @كيف تعتقد السيّدة نجاة يمكن تفعيل دور المثقّف بشكل عام، وجعله أكثر تأثيراً ونشاطاً مع الجماهير التي يعيش بينها؟ هل يجب على المثقّف أن ينتظر من يفعّل دوره؟ عليه أن يؤمن بدوره، وبأنّ الوطن لا يبنى دونه، وهو ما سيجعله يبادر بالفعل، لا بمجرّد النّقد والكلام..متى صار قريباً من النّاس، وحاول مساعدتهم في تفاصيل حياتهم، آمنوا بدوره وبحاجتهم إليه..على العلاقة أن تكون مباشرة مع كلّ الفئات الاجتماعيّة، والعمريّة..المثقّف الصّادق لا يبحث عن اعتراف إعلاميّ به، أو وسام..المثقف الحقيقي دوره كامن في تخليص من حوله من المشاكل، بمساعدتهم الفكريّة والنفسيّة، هكذا يبني المثقفون معا مجتمعاً يواجه كلّ أشكال التغييب أو التسلّط. @كيف تعتقد السيّدة نجاة تعميق أواصر الصّداقة والتعاون بين المثقفين العرب بكافة الساحات العربيّة، كي يكونوا أكثر فاعليّة وتأثيراً، فيما يجري في المجتمعات العربيّة من أحداث وخلافه؟ لن تتعمّق أواصر الصداقة والتعاون، ما لم يتخلّص المثقفون العرب، من منطق العلاقات الضيّقة، فذات الوجوه، تحضر في أغلب المحافل. هذا التضييق يقتل طموح المثقّف، ويخلق صراعات لا علاقة لها بالمثقّف الحقيقيّ..هذه الدوائر المغلقة، خطر على واقع المفكّر العربي بكلّ وجوه حضوره..متى تحقّق الانفتاح، صارت العلاقات أكثر فاعليّة، بغياب الولاءات للذّوات، ولمن يدعمونها..متى تخلّصتْ العلاقات من "حال وضع اليد" في الأسماء والمواضيع، سيتحسّن واقع المثقفين كثيراً. @ كلمة أخيرة توجّهها الكاتبة نجاة إدهان إلى المثقّف التونسي خاصّة والعربي عامّة كي يكون دوره أكثر فاعليّة وإيجابيّا؟ الأمر هو ذاته:على المثقف أن يؤمن بدوره، وأن ينأى بنفسه عن ثقافة الولاء، أو البطولة الواهمة، فكلاهما خال من الوظيفة..ما يحتاج إليه الإنسان "العاديّ" هو المثقّف الذي يدرك تفاصيل وجعه، فيساعده، لا ذاك الذي يتاجر بهمومه كلاماً، لا أكثر، لأنّه لا يمتلك بديلاً، ولأنّه لا يستطيع مواجهة السّلطة، وكلّ أشكال القيد، بما فيها التفكير الجمعي وموروثاته..أبقى متفائلة دائماً، لأنّني أومن جدّاً بأنّ في مجتمعاتنا نخبة مثقّفة صادقة، وقادرة على الفعل، رغم تعالي الأصوات، الآن وصراخ "أبطال ما بعد الثورة"..المثقف الحقيقيّ هو من كان فاعلاً، ومن يحترف الثرثرة، لا وقت له للفعل.