لايختلف إثنان على أن إعطاء تعريف دقيق نهائي لمفهوم المثقف أمر على غاية من الدقة، لاختلاف المدلول بين الثقافات المختلفة، وحتى ضمن رؤى الثقافة الواحدة، وتباين التراكم المعرفي من جهة، وتنوع التجارب التاريخية من جهة أخرى،وهو ما يجعل معنى الكلمة يتراوح بين مفهوم ضيق، يجعلها مقتصرة على النشاطات الذهنية، من خلال تأقلم المخرجات الفكرية، وبين مفهوم يدمج النشاطات مجتمعة " الفكر ، وما ينتج عنه، ويؤدي إليه، من سلوك وممارسة ، وتأثيرات فعالة "إذا، كثيرا ما يفهم معنى كلمة -مثقف- في عصرنا الحاضر، فهما خاطئا فأغلب الناس، يطلقونها على طبقة خاصة من المتعلمين، وشاع استعمالها،بين العوام إلى درجة أصبحت الكلمة، تعني حامل شهادة،وهي في الثقافة الشعبية، تجسدها صورة رجل كثير القراءة شغوف للإطلاع.
يجيد الحديث بأسلوب شيق، ولغة جذابة، ويعتمد على المصطلحات والمفاهيم التي تروق جماعته،وغالباً ما تكون تلك المصطحات والمعلومات غربية،اكتسبت عن طريق القراءة وتراكمات المذاكرة،في تنوع غير متجانس، من صنوف المعرفة،وهذا ليس ذلك المعنى الاصطلاحي ، الذي تعارف عليه أهل الاختصاص ، فالمثقف عندهم هو :من يحاول إدراك الأشياء التي تحيط به،إدراكا معرفيا، والوقوف على ما يجري حوله، ضمن عملية وعي دائبة.
وذلك لا يتأتى ، إلا بالسعي لزيادة المعلومات، وتوسيع أفق التفكير وترتيب آفاقه وحسن استخدانه،والبعض يعتبر أن المثقف فقط ، هو ذلك الفرد الأكثر انغماساً في الفضاء الذي ترسم معالمه الكلمة أي حالة تعبيرية، تجعله "المثقف"- منتجاً للأعمال الفكرية، بأشكالها الإبداعية والعلمية، المرتبطة مباشرة بنشاط ذهني...بهذه الصفة يكون المثقف في المقام الأول والأخير، صاحب إنتاج فكري وابداعي. أو تلك -الآلية-التي يتوسل بها هو ومن جراه، في السعي لتغيير وجه الحياة ونمط المعيشة، إلى ما هو أفضل، وخلق قيم، تؤثر في سلوك الإنسان، ومسار حياته.
وقد دفع الجدل حول مفهوم كلمة المثقف الى نعوت شتى. قال بعضهم: المثقف هو من يحمل الحقيقة في وجه القوة ،وقال آخر إنه من غادر حقل الاختصاص،وأتصف بالمسوعية المعرفية والابداع الفكري ،..وما إلى ذلك من المفاهيم والتعريفات. ومهما يكن فإن الإيمان بدور المثقف وقدرته كان وما يزال مدعاة ذلك الجدل وشتلة تلك المفاهيم،التي تعني غير ما هو شائع عند أكثر الناس تحديدا، والمهم أن للمثقف دور ريادي، وبعد إنساني في مجتمعات المعرفة.ينضوي تحت إسم المثقف، جميع الذين يقاربون الفعل الثقافي .. بوصفه عالماً واسعا من الرموز،والقيم، (يشمل المفاهيم الأخلاقية ،والعلم، والفنون، والأداب، والدين.)ويدخل ضمن هؤلاء،حسب التعاريف كل من يعمل على صقل المعرفة ونشرها،والارتقاء بالفعل الفكري،والتصاقه بقضايا المجتمع و انحيازه للانشغالات الإنسانية، وللحقيقة،والتنوير، حتى لو كلفه ذلك غاليا.
المثقف إذاً.. هو ذلكم الإنسان المفكرالجاد الذي يتصدر طليعة المجتمع فكرياً واجتماعياً. يثير الأسئلة، ويتبنى قضايا المجتمع وهمومه. لا يكون انتهازياً متحينا للفرص، ولا نفعيا، منحازا للقوي ضد الضعيف ،أو للحاكم ضد المحكوم إلى غير ذلك من اللاءات. لكن تأثيراث العولمة ،وما صحبها من تدفق إعلامي ومعرفي، أحيا العلاقة بين المثقف والقوى المتسلط، بمختلف أصنافها و اشكال مؤسساتها . ووجد المثقف العربي نفسه أمام ثقافة متعددة المصادرغريبة الأطوار، لم يعد لها علاقة بثقافة أمته بل كثيرا ما تحمل نفساً عدائياً لها ،و أمام هذا الوضع المستجد ، انقسم مثقفونا الى فئات ثلاث: فئة بقيت على نهجها الأول، وتمسكت بالقديم اعتبرته طوق النجاة من مضار العولمة،هذه الفئة لم تستوعب حجم المتغيرات وافتقدت فعاليتها وحتى القدرة على الإستمرارية، وفئة انبهرت بقشور الثقافة الغربية،و لم تحتفظ بثراتها ولم تتمكن من دخول المسرح الجديد، فانمحى اثرها وزال تأثبرها،وقئة ثالثة بقيت على عهدها، ملتصقة بقضايا المجتمع،تسعى إلى تبنى الهم الانساني والبحث عن الحقيقة والخوض في تنوير البشرية.
ومن المعلوم أن الثقافة والمثقف ليسا عملاً إجرائياً، نستطيع أن نصنعه، إذ يمكننا أن نقيم مؤسسات ثقافية، و نسخرلها وسائل، لكننا لا نستطيع أن نصنع المثقف أوندهن الثقافة بلوننا المفضل، كما أننا لانسنطيع أن نحدد بدقة الحساب وصف المثقف أو حصر ماهية الثقافة لكن يمكن القول أن المثقف هو ذلك الفرد المنتج الفكري والإبداعي الساعي الى تغيير وجه الحياة في منحى مصلحة الإنسانية. فإذا كان رجال الحكم، كثيراما يتأثرون بالمحيط..و قد تدفعهم طبيعة هذا المحيط وحسابات المقربين إلى رؤى خاطئة فيتصرفون اعتمادا على حسابات المحيطين بهم، أو على الخضوع لنزواتهم الذاتية ، فمن تم تتكون علاقة تضاد ثارة وعلاقة احتواء طورا، بين المثقف والسلطة "الحكام"، وهي فى الحالة الاولى تتوجس من المثقف المستقل، فتجعل منه ضداً وخصماً في ذات الوقت، ويصبح كل ما يصدر منه، قابل لتأويل عكسي،تراه مطالبا بتفسير أي موقف يقفه.
وطنيّته متهمة، وولاؤه موضع تساؤل،وفي الحالة الثانية حينما تكون العلاقة إحتواءً ، يتحول المثقف إلى بوق تستعمله السلطة، فينزلق إلى مستوى الأداة،تتحدث السلطة بلسانه،ويعبرعن أفكارها لإضفاء شكل الصفة الاخلاقية على الممارسات لا أخلاقية . وانسنة السياسات الموسومة، بكل ما هو انتهاك للآدمية ،"للبشرية"-أنظرحاخام القدس، وقضاة محاكمة صدام حسين ودعاة غض النظر عن اراء سلمانرشدي،وأفكار تسليمة نسرين،و فتاوى قتل الابرياء، وأنصار موجبات تغيير الفتوى - لأن المثقف و الثقافة، في حقيقة الامريمثلان أعلى أشكال الفعل الإنساني وأسمى مظاهر احترام آدمية الإنسان.ونادرا ماتكون علاقة المثقف بالسلطة علاقة تكامل،وإذا كان تكامل السلطة مع المثقف ،فإنه يأخذ اتجاهين : "سلبي وإجابي" .
التكامل السلبي ، يبتدئ حينما يتبنى المثقف دوراً ،ضمن ترتيب ما ، بتظاهر ، أنه ضد التجاوزات الرسمية ، لكنه في حقيقته .. وواقع الأمر ، يسعى لتكريس صورة - نمطية - ايجابية للسلطة. مثل إيراز ديمقراطية السلطة،وتسامحها، حيث سمحت له بالمعارضة، وإعطاء الرأي الآخر حق التعبير عن نفسه ، ضمن هامش محسوب.أما التكامل الإيجابي مع السلطة ، وهو أمر جيد في اعتقادنا، حينما يدعم توجهاتها الايجابية ، في مسائل مثل ، صيانة الحريات ، والتحرك نحو هامش أوسع للديمقراطية والمشاركة الشعبية ، والشفافية في ترتيب الشأن العام ، والتوزيع العادل للثروات الوطنية، ومبدأ تكافؤ الفرص، والفصل بين السلطات مع احترام حقوق الإنسان.هذه عينات مجهرية من أحوال المقثفين وساحات الثقافة.
فإذا جعلنا تلك الصفات والأوضاع معيارا للقياس، ومنظارا لفحص واقعنا العربي،وقابلنا نتائج فحصنا بما يجري نجد أن المثقفين العرب بشرائحهم الثلاث، يتموقعون في اسوأ أروقة مجتمعات المعرفة،والفعل الثقافي في أوطاننا منزو في ركن عاتم،وهو أقرب الى رد فعل كيميائي يطلقه الدماغ نتيحة الاحتكاك بالأخر فيبعث حالة الشعور بالخوف من الحرمان،و.. أو بالإحساس بالسعادة والرضى بسبب علاقته بالسلطات أو محاصرته من قبلها .
ومع مشاكل وتناقضات المجتمع و الظروف الاجتماعية الذاتية منها والموضوعية والأوضاع الدولية المتسارعة التحولات برزت تقسيمات جديدة من نوع الثقافة الآنية والمثقفون المرتزقة،وهوماجعل التكامل الإيجابي في وططنا العربي أمرا مستحيلا،فإذا سعى المثقف الى دعم التوجهات الإيجابية للسلطة فإن أطرافها أوالعالقين بأسمالها من محترفي الفساد والرشوة والتعصب القبلي والديني،ومنتحلي المعارف،يكونون جدارا من المصاعب والمتاعب فيحاصرونه جسديا ويقيمون عليه حضرا فكريا وماديا. وهو ماوجه الأعمال الثقافية بعمومياتها وخصوصياتها ،ثوايتها ومتغيراتها شعبيتها وطلائعيتها إلى هز القناعات البالية والمضامين التافهة ،و اختراق الوعي الجماهيري للمجتمع وخلق حالة الحضور الغائب والتوجه بالمجتمع نحومنحذرالسقوط في التبعية والغوغائية والأنسلاخ عن القيم واهمال الهوية، والخضوع والخنوع للأعداء.