في الصباح حدث شيء مريع .. لقد عثر بعض الحطابين علي جسد ممزق في الغابة .. جسد بشري ! روع الحطابون المساكين لهذا المنظر المثير للاشمئزاز وصرخوا طالبين النجدة من أقرب من يمكنه تقديم العون لهم .. ولم يكن هناك أقرب لموضع الجثة من خدم وأتباع السيد " بيرجيس " الذي تسيطر أملاكه علي تلك الناحية كلها .. هرع رجال " بيرجيس " لمساعدة العمال المساكين وهناك وجدوهم يلتفون في حلقة حول شيء ما يشبه كومة من اللحم المفري مختلط ببعض الأجسام السميكة الصلبة .. لم تكن كومة لحم بل كانت بقايا جثة اختلطت عظامها ببقايا لحمها الممزق .. أثار المنظر اشمئزاز وفزع الجميع .. لكن السؤال الملح ظهر علي الفور وسط الرجال المرتجفين خوفا : فمن الذي فعل ذلك ؟! حيوان مفترس ؟! صحيح أن تلك الغابة تعج بأنواع مختلفة من الحيوانات اللاحمة لكن أي منها لا يستطيع أن يصنع بجسد بشري ما صُنع بذلك المسكين الممزق المجهول الهوية ! في تلك اللحظة وصل المزيد من الدعم للرجال داخل الغابة ، وكانوا مجموعة من خدم السيد " بيرجيس " يقودهم أحد عمال المزرعة المدعو " أنسيل " .. فرق " أنسيل " بجسده الضخم الحلقة البشرية المحيطة بالجثة ووقف علي كثب منها وأخذ ينظر لها بعمق وتركيز .. لحظة واحدة ألم فيها بتفاصيل المشهد المريع الواقع تحت بصره .. ثم هرول مبتعدا وأفرغ معدته خلف الأشجار ! تقيأ " أنسيل " المسكين من هول المنظر .. ثم قام بتغطية قيئه بسرعة ببعض الأوراق المتساقطة خشية أن تقع أنظار البعض علي محتويات معدته التي أفرغها لتوه .. فليس من الحصافة أن يري أحدهم قطع اللحم الغريبة التي تقيأها ! عاد " أنسيل " إلي حلقة الرجال وأشار عليهم بالبحث أولا عن أحد يتعرف علي القتيل ويعرف شخصيته لحمله وإعادته إلي أهليته أو ليدفنونه حيث هو إن كان مجهول الهوية .. وبالفعل عزم الرجال علي تنفيذ الفكرة علي الفور وذهب بعضهم لإخبار أهل القرية القريبة من الغابة بما حدث لعل القتيل يكون من بين أهلها ويكون هناك من هو قادر علي تعريف شخصيته .. ولم يبقي مع " أنسيل " سوي اثنين من أتباع السيد أمرهما بأن يذهبا ويجمعا الأغصان لتغطية الجثة بها .. وذهبا تاركين إياه يحدق باشمئزاز في بقايا جسد الآدمي الممد أمامه سائلا نفسه برعب : " أيمكن أن أكون أنا من فعلت ذلك .. شيء مثير للاشمئزاز حقا ! " في تلك اللحظة شاهد " أنسيل " شيئا جعل قلبه يدق رعبا ودهشة .. لقد كانت هي ! تلك المرأة المسماة " سيليمن " ذات جدائل الشعر الطويلة والجمال الغامض .. كانت تمر خلف بعض الشجيرات القريبة حاملة بيدها كومة من الأعشاب ذات الشعر الكثيف المتدلي الغريب المنظر .. تجمدت أنفاس " أنسيل " للحظة وعزم علي محاولة اللحاق بها .. إنه لم يراها منذ تلك الليلة الوحيدة ولا يعرف ما إذا كانت حلما من الأحلام أم حقيقة جامدة ! تحرك سريعا من موقفه لكنها كانت قد توارت بعيدا عن ناظريه في أقل من لحظة .. صاح يأسا : " سيدتي .. سيدتي أأنت هنا ؟! " لم يجبه سوي صوت الريح وهي تعصف بأعالي الأشجار والأوراق المتساقطة بغزارة في خريفها المعتاد .. مرت لحظة ثم كرر " أنسيل " النداء دون أن يجبه أحد .. ولم يكد يفكر في البحث عنها للمرة الثانية حتى كان الأتباع الاثنين قد عادا محملين بكومات من الأغصان لتغطية الجثة بها .. وخلال ثوان كانت كومة اللحم المختلطة بالعظام ترقد تحت الأغصان وأوراق الشجر بعيدا عن عيني " أنسيل " المرتعبتين ! وبعد بضع ساعات كان أهل القرية المجاورة قد أرسلوا وفدا منهم للتعرف علي جثة القتيل .. الذي لم يكن سوي راهب عجوز يقيم منفردا نائيا بنفسه في تلك الأنحاء والغابات المظلمة المنقطعة .. لقد كان راهبا يا " أنسيل " .. راهبا ! ردد لنفسه وهو يراقب الرجال الأشداء وهم يحفرون قبرا صغيرا لدفن بقايا الراهب الممزقة به .. الآن فقط تيقن " أنسيل " بأنه انتهي وحلت عليه اللعنة ! ............................ تعالي النداء وتصاعد حتى خلايا مخ " ايزيا " الذي لم يعد قادرا علي المقاومة أكثر من ذلك .. علي أطراف الغابة وقفت ثلة صغيرة من الذئاب تعوي بأعلى أصواتها المرعبة .. كانت تناديه .. الغريب أنه صار يفهم لغتها الآن ويدرك كل ما تريد أن توصله إليه من معلومات : " تعالي .. تعالي .. ننتظرك في ضوء القمر ! " تردد النداء في المرة الأولي فحاول أن يصم أذنيه بأقصى ما لديه من قوة : " تعالي .. هلم إلي مرتعك النبيل ! رافقنا تلك الليلة ! " تعالي النداء للمرة الثانية وخارت قوي " أيزيا " تماما وصار بالفعل عاجزا عن مقاومة المزيد .. الغريب أنه كان يحاول المقاومة والامتناع عن تلبية النداء رغم أن هذا ، وهذا بالتحديد ، ما عمل من أجله وما حلم به طويلا ! " هلم تعالي .. لا تتمنع ليلة طيبة وصيد وفير ! " هنا تحطمت مقاومته تماما فهرول بأنفاس لاهثة إلي أطراف الغابة .. حيث كانت أسرة كاملة من الذئاب تنتظره ! جروا أمامه فتبعهم .. توغلوا داخل الغابة صعدوا تلا قريبا .. وقفوا في ضوء القمر الساطع وأنطلق عوائهم المخيف يمزق الليل الساكن في تلك الناحية الموبوءة .. كان عواء جماعيا هو أعنف وأخوف ما سمعته ( شيفلدان ) في كل تاريخها الطويل .. فالويل لك يا شيفلدان .. الويل ، كل الويل ، لك !