في ضوء القمر ووجهه يسبح في نوره الساطع وقف .. كان يقف أمام الكوخ بالضبط .. إن المزيج يغلي علي النار الآن وقد وصل إلي مرحلة النضج تقريبا .. النضج القريب يعني خلاص قريب يا فتي فأصبر وأنتظر .. خلاص من الجوع الذي مزق أحشائه منذ ثلاث ليال قضاها في سجن السيد عقابا له علي سرقة قطعة اللحم .. لم تسمنه قطعة اللحم المسروقة ولم تغنه من جوع لكنها تسببت في أن يُترك ليتضور جوعا ثلاثة ليال بطولها .. أي نوع من الناس أولئك الذين يتركون إنسانا يكاد يهلك جوعا لمجرد خطأ صغير كهذا ؟! من داخل الكوخ صدرت رائحة شهية تدل علي اقتراب نضج الطعام .. لقد أخرجوه من السجن ، بعد أن نال وصلة لوم وتقريع وتعنيف من السيد ومن نائبه ذو الأسنان المتآكلة ، وتركوه يعود لكوخه .. في طريقه نصب فخا متقنا ووقع له بعد قليل أرنب سمين كان يبدو وكأنه خُلق خصيصا لكي يعوضه عن الجوع الذي نهش أحشائه طويلا .. همس شاكرا بمجرد أن أمسك به : " شكرا للرب " وذهب لكوخه سريعا ليعد وجبة دسمة تسمنه وتغنيه .. لكنه بينما كان واقفا أمام الكوخ منتظرا نضج الوجبة ، الذي لم يتحمل قلبه المتلهف الانتظار طويلا علي كثب من الأرنب الذي لا زال أمامه بعض الوقت ليكون جاهزا للأكل ، رأي " أنسيل " شيئا غريبا .. لقد رأي ظلا ضخما يتحرك أمام قرص القمر المكتمل ! حدق " أنسيل " وفتح عينيه علي أتساعهما محاولا تحديد شكل هذا الظل المتحرك أمامه .. كان هناك جسم يتحرك ، فيما يبدو ، فوق أحد التلال القريبة ملقيا بظله الضخم علي قرص القمر اللامع .. فجأة شعر " أنسيل " بأمعائه تهتز ، ولم يكن اهتزازها ناتجا عن الجوع هذه المرة .. بل عن الخوف ! لقد تذكر كل ما سمعه عن هجمات الذئب العملاق الذي أوقع عدة ضحايا في المناطق القريبة .. أيكون دوره قد حل تلك الليلة المشئومة ؟! لا .. ليس بتلك السهولة سيدخل كوخه ويغلق بابه علي نفسه جيدا .. سيأكل أرنبه الناضج السمين ثم سيخلد للنوم .. ليس تلك الليلة أيها الذئب المتوحش فأبحث لنفسك عن فريسة غيري الليلة ! بالفعل أسرع " أنسيل " إلي داخل الكوخ .. أغلق الباب وأستخدم قطعة خشبية ضخمة ، يحتفظ بها عنده ، في تدعيم باب الكوخ وتقوية موقفه .. كان الأرنب السمين يسبح في حسائه الدسم واعدا بعشاء فاخر قد يضاهي عشاء السيد ذاته .. لكن صوت الزمجرة الشرسة الخفيضة الآتية من الخارج جعلت الأرنب ينزلق بصعوبة في معدة " أنسيل " الخالية .. تناول القن عشائه .. وفرش أغطيته علي الأرض وتدثر بها ، بعد أن أطفأ النار ، محاولا الاستغراق في النوم .. مضي وقت لم يستطع " أنسيل " تحديده لكنه الشيء الوحيد الذي يمكنه تحديده بل والتأكد منه أن صوت الزمجرة والخشخشة قد أختفي نهائيا .. أرهف " أنسيل " أذنيه جيدا .. كان الهواء طيبا بالخارج ولا رياح شديدة ولا أي صوت يمنعه من تسمع ما يدور حول كوخه .. وكان الكون بالقرب من الكوخ ساكنا صامتا هادئا تماما .. خرج من فراشه ، كانت قدماه تقودانه بالرغم عنه ، وقف بقرب باب كوخه يتسمع .. لا صوت ولا حركة ولا نأمة ! قادته قدماه ثانية ولكن إلي الخارج هذه المرة .. وقف خارج بابه يتطلع للكون المظلم من حوله .. لا شيء مخيف لا شيء مقلق .. كاد يرجع إلي كوخه وإلي فراشه حينما شعر بحركة واهنة بقربه .. تجمدت أوصاله حينما أنطلق صوت خفيض مهدد من خلفه .. عواء خفيض مصر .. نظر " أنسيل " خلفه ببطء لكنه بطئه ولا سرعته لم يكونا ليضراه شيئا .. لكن الضرر نفسه واقف خلفه الآن ! هجم الوحش الضخم علي التابع المسكين من خلفه .. أسقطه أرضا ومزق كتفه وجزءا من ظهره في وحشية خاطفة .. لم يعطه فرصة للصراخ ولا للمقاومة ولا حتى للإصابة بالقدر الواجب من الرعب .. كان هجوما خاطفا مريعا .. تمخض عنه رجل ملقي علي الأرض غارق في دمائه وفاقدا لوعيه وملقي بالقرب من باب كوخه الصغير .. سقط " أنسيل " أرضا مضرجا بدمائه النازفة .. لم يجد حتى الفرصة الكافية للصراخ ! جرحه الوحش جروح بليغة وقضم جزاء كبيرا من لحمه ثم تركه ليقضي بمفرده .. ظل " أنسيل " الجريح راقدا علي ظهره ساعات فاقدا لرشده .. مرت ساعات أخري وهو غير واع لما يحدث في الكون حوله حتى أقترب الفجر .. في تباشير الفجر بدأ " أنسيل " يسترد وعيه .. فتح عينيه للحظة ثم أنقلب علي وجهه وأفرغ محتويات معدته بأكملها .. سقط الأرنب السمين ، الذي لم يعد كذلك ، من معدته .. أسترد " أنسيل " وعيه شيئا فشيئا ببطء شديد .. وببطء شديد بدأ ينهض من سقطته .. وقف أخيرا علي قدميه متطلعا للبقعة التي كان ساقطا فيها ولنفسه بدهشة شديدة .. كانت الدماء الجافة تغطي المكان من حوله .. تفحص جسده ببطء .. قميصه ممزقا وقد تحول لأشرطة مدلاة علي جانبيه ونصفه الأعلى شبه مكشوف .. لكن جلده سليم تماما .. لا تمزقات ، ولا تهتكات ، ولا جروح .. لا جروح علي ظهره أو علي ذراعيه .. لا جروح في أي مكان !!