ظلت الأم الحنون صامدة فى وجه الزمن . . واقفة على قدميها . . قوية صلبة عنيدة . . تكافح وتناضل وتكابد مصاعب الحياة التى لم تهزمها قط ، وكانت تزداد قوة وصلابة كلما إشتد عليها الزمن ، وتكالبت عليها الشدائد والهموم والأزمات . كانت لها قوة مائة رجل . . لم تنحنى ولم تركع ولم تنكسرأبداً ، لم تعرف اليأس ولا القنوط ولم تنكفئ يوماً . . كانت نموذجاً للقوة و الصلابة ، والحكمة وقوة العقل ، والصبر والتحمل ، والعطف والرحمة والحنان . . كانت إستثاءً من أغلب النساء . مرت السُنون تلو السنين ، وترعرع الصغيران وتدرجا فى مراحل التعليم ، حتى نال كل منهما شهادته الجامعية ، وبدأ كلاهما يشق طريقه فى الحياة . ولكن الأم كبرت . . مضى بها قطار العمر دون أن تدرى ، وقاربت السبعين عاماً ، وتسلل المرض والضعف والوهن إلى جسدها ، الذى عانى الكثير والكثير، على مر السنين . إعتل القلب وتوقف شقه عن النبض وضخ الدماء ، وتألمت العظام وما عادت تقوى على الوقوف ، وهى التى وقفت طويلاً فى وجه الزمن ، وضعف البصر وإزداد ضغط الدم إرتفاعاً ، وتسربت إلى أوصالها أمراض الشيخوخة ، وما عادت تقوى على فعل شئ ، أى شئ وكل شئ . أخيراً تمكن منها الزمن وهزمها ، ولازمت الفراش طيلة خمسة عشر عاماً . . حتى فاجأتها جلطة فى الدماغ . . أنستها كل شئ إلا ولديها ، ظلت تذكرهما حتى ماتت . . وكيف لا تذكرهما ؟ ؟ وقد أنفقت من أجلهما أحلى سنوات العمر. . بخلت على نفسها بكل شئ ، ولم تبخل عليهما بأى شئ . أعطتهما كل ما تملك من الحب والعطف والحنان والعمر والصحة والمال القليل ، ولم تدخر لنفسها شيئاً . . لم تعش يوماً من أجل ذاتها . بل عاشت لهما . . ومن أجلهما . . فوَجبت لها الجنة . " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ، وبالوالدين إحساناً ، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ، فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ، وقل لهما قولاً كريماً ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ، وقل ربِ إرحمهما كما ربيانى صغيراً " صدق الله العظيم