فيما تملّكني من حبّ الأدب، وأنا طالب في "ثانوية المأمون" بحلب (التجهيز الأولى) في سنة البكالوريا 1949-50، أني دخلت يوما على مديرنا المحبوب الشاعر "عمر يحيى" أقترح عليه إصدار مجلة يحرّرها الطلاب وتموّلها الإدارة، وما أسرع ما منحني الموافقة، وعهد لمعاون المدير "صبري الأشتر" (فيما بعد أول عميد لكلية الآداب بجامعة حلب) مهمة "الإشراف" على المجلة، وحدث أنّ الأستاذ الأشتر نُقل عُقيب ذلك إلى وظيفة أخرى، فجدّد المدير العُهدة لأستاذ الأدب العربي لصفوف العواشر، العائد حديثا من "دار المعلمين العليا ببغداد"، الشاعر "سليمان العيسى"، فكان هو المشرف، وكنت أمين التحرير ممثلاً لطلاب المدرسة ومغامرا بسنتي الدراسية وأنا في آخر مراحل الثانوي. أحبّ أن أبيّن أنه اجتمعتْ بالأستاذ سليمان العيسى ميزات ثلاث، أولاها اقتراب سنّه من أعمار الطلاب، وثانيتها أنه شاعر قد جمع بين الرومنسية الشفافة (قصيدته: لمن أذوب ألحاني) وبين القومية الصادحة الصارخة (لُفَّ اللهيب على الجراح وشاحا * خُلق الشباب تمرّدا وكفاحا)، والميزة الثالثة أنه من أبناء لواء الإسكندرون، الذي كان قد فُصل عن سورية وضمّ إلى تركيا منذ قريب، فحلّ أناسٌ منهم بيننا معزّزين مكرّمين. جعلت أتردّد على بيت الشاعر، بأوراق آحملها وأعود بغيرها. غرفة يسكنها في بيت في "محطة الشام" بحيّ "الجميلية". وكنت أراها مؤطّرةً تلك الصورةَ للفنانة "أسمهان" بجوار سريره، لابسة طاقية ملونة، متحدثًا لي، ولمن كنا نأتي إليه مترافقين من طلاب "المأمون"، عن منتهى إعجابه بصوتها وبصورتها. صدر العدد الأول من المجلة، التي سمّيناها "صوت الطالب"، في شهر كانون الثاني (يناير) 1950، والثاني في آذار، وعدد ثالث بعده، وقد تجاوزت صفحات كلّ عدد المئة، حافلةً بما يُقرزمه الطلاب من شعر وينثرون من الخواطر والمقالات (والأعداد الثلاثة في حوزتي). وعلمنا، في صيف ذلك العام، أنّ شاعرنا الشاب (ابن التاسعة والعشرين)ٌ التقى الطالبة الحلبية العائدة توا من بلجيكا معزّزةً بمؤهّلها الجامعي، "ملكة الأبيض" وتزوجا. ومن ناحيتي توجهت في ذلك الخريف إلى القاهرة للدراسة بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة فيما بعد). وأحبّ أن أبيّن أنّ سليمان العيسى بدا لنا - منذ ذلك الحين - موفور النشاط في الترويج لحزب البعث بين الطلاب. وللحقيقة كان المجتمع يمور حماسة للفكر القومي (قبل أن يُصاب بنكسة 1967). وقد استطاع الأستاذ الشاعر المحبوب أن يؤثر في طلابه، فانتسبوا للحزب سرا وعلانية... (ثمّ كان من أمرهم أن تسنّموا بعد 1963، ثمّ أقصي بعضهم، ودخل المعتقلات بعض، وهام على وجهه بعضهم الثالث). بعد عودتي من دراستي الجامعية بالقاهرة، زاوجت في العمل بين المحاماة متمرّنا وبين التدريس في الثانوية التي علّمتني مع المشاركة في تصحيح الأوراق في إحدى الشهادتين. وأذكر ما تداولناه في حينه من نادرة، أنّ سليمان قال مرة في أثناء تصحيح الأوراق لأديب حلب الكبير "خليل الهنداوي" (الذي يُكنَى "أبا روحي"): «أبو روحي! اسمع مني، انتسب لحزب البعث اليوم قبل غد تصبح فيه من الصحابة!»، وليست اليوم بالنكتة التي تهضم. وانتقل سليمان العيسى، بعد آذار 1963، من حلب إلى دمشق، وشغل وظيفة "الموجه الأول للغة العربية" في وزارة التربية. ومع شهرته في ذلك الحين شاعرا وبعثيّا، فإنّ شعراء الحزب من الشباب تهجموا عليه مرة في الصحافة بصفته "شاعرا عموديا"، بمعنى أنه يَعنيه "النظم" أكثر مما تعتريه الحالة الشعرية، التي يظنون أنهم يحققونها في شعر التفعيلة! ولست أدري مدى ألم الشاعر، الذي نظم للحزب نشيده (يا شباب العرب هيا... لحّنه زياد الرحباني أظنّ)، ولكنا بدأنا نرى جنوحه إلى شعر التفعيلة مع اشتغاله بنظم الشعر للأطفال، هذا الذي أغرق به المقررات المدرسية المطبوعة، وب"شواهد النحو" التي أخذ يؤلفها في الكتب التي تمر من تحت يده بحسب الوظيفة التي يشغلها في الوزارة. وأتوقف في محطة أخرى فأقول إني في زيارة مني لبعض الأهل في الرياض ربيع 1985، اتفق أن كان سليمان العيسى في العاصمة السعودية، يشارك في مؤتمر تربوي مما تقيمه منظمة التربية والثقافة والعلوم (اليكسو) التابعة لجامعة الدول العربية. وقد التفّ حوله السوريون العاملون في التدريس هناك، طلابًا كانوا له أو زملاء وقد نجَوا بأنفسهم. حدثوني بأنهم بهتوا وهم يستمعون إليه يندّد بالنظام السوري (ولم تكن بعيدة أحداث حماه). وأعترف بأني لم أعجب لذلك كثيرا، فإنه ضمير الشاعر وإن كان يتلقى ما يتلقى. ومحطة أخيرة. إني، وأنا في لوس انجلوس صيف 2004، شاهدت مقابلة له في "قناة المستقبل" (ربما)، بدا لي فيها كالمتنصّل من الحزب ومن اسم الحزب، فكان كلما وجّه إليه المضيف سؤالا وردَت فيه كلمة "حزب البعث العربي"، رأيت سليمان يرجع بالذاكرة إلى "حزب الإحياء العربي"، الاسم الذي كان الاتفاق عليه ابتداءً قبل أن يقع التحوّل عنه في الساعة الأخيرة. يمكنني القول بأنّ موهبة سليمان العيسى الشعرية لا يضاهيها إلا طيبته ونواياه الطيبة. رحمه الله.