تعلمنا ضمن ما تعلمناه، أن التاريخ يسير خطوة إلى الأمام، وفي بعض الأحيان وليس بشكل دائم، يعود خطوة إلى الخلف. وحركة التاريخ إلى الأمام هي دائماً الأكثر منطقية، وهي التي تنهض بالأجيال الصاعدة في أي بلد على هذه الأرض .. ولكن هذا لا يعني أن تراجعه خطوة إلى الوراء هو شيء غير عقلاني، فعلى العكس تماماً هي خطوة حتمية حتى ينفض عنه عبء بعض الأخطاء أو تصحيح بعض الموروثات التي تثقل كاهله. بهذا المعنى وبدرجة أعلى من التفاؤل، وبعيداً عن النظرة الدرامية لكل ما يجري من حولنا، يمكننا تفسير الأمر بشكل مختلف، فنحن نحيا هذه الخطوة التي يصحح بها التاريخ مساره من دون أي مساس بما نتوقعه من مستقبل أفضل. ربما من الصعب علينا جميعاً أن تظللنا هذه اللحظة، فكلنا يصبو لأن يحيا لحظات التقدم والازدهار. ولكننا ربما نعيش الحالة التي حدثنا عنها أحد مفكرينا بأنه «ما سقط هو ما كان يجب أن يسقط». بهذه النظرة، ليس علينا أن نبكي كثيراً على ما نفقده اليوم، إنه من الضروري أن نفقده لأنه متصدع من الأساس، حتى نستيقظ ونسترد أنفسنا أولاً، ثم مستقبلنا ثانياً بشكل أكثر وضوحاً وعقلانية. على سبيل المثال، سنجد أنه كان من الضروري أن يتقهقر وضع المرأة في العديد من بلداننا كما يحدث الآن، حتى تنهض نهضة كبيرة وحقيقة، فالواقع المعاش حالياً يجعلنا نقترب أكثر من مصداقية المكانة التي بلغتها عبر العقود الطويلة الماضية، لنتمكن من عملية إعادة تقييم شاملة لمكتسباتها كافة التي حققتها أو تحققت لها، وهل كانت خطواتها راسخة واثقة وتراكمية كما كنا نتصور، أم إنها لا تعدو أن تكون قفزات متلاحقة تفتقر إلى الأساس السليم، ما جعل النيل منها وتحجيمها يبدوان للبعض أسهل وأسرع مما كنا نتصور. الأمر نفسه ينسحب على كل تفاصيل ما نحن فيه وما هو محيط بنا، من ثقافة وإعلام ومفردات المجتمع المدني بكل ما تحتويه من منظمات وأحزاب ورؤى سياسية، بل إن الأمر يطول، شاء من شاء ورفض من رفض، تلك التيارات المفروضة اليوم على المشهد السياسي والتي عاشت طويلاً تتغنى بشعارات العدالة والتراحم والسماحة والتكافل الاجتماعي مروراً بكل الشعارات التي رفعت على مدى سنوات طويلة. حينما نتخطى حاجز التشاؤم الذي بدأ يسيطر علينا سنرى الأمر بعين مختلفة؟ وسنعرف أن الهبات العشوائية والتمرد من أجل التغيير ليسا بالكافيين وحدهما لإحداث تغيرات كبرى في حياة الشعوب، بل إن التغيير والذي يعني في ما يعنيه خطوة، بل خطوات إلى الأمام، لا يأتي إلا بتغيير ما في داخلنا أولاً، وبمواجهة ادعاءاتنا قبل مواجهة الغير، وإلا فنحن نصر إصراراً غريباً على السير في الطريق العكسي لحركة التاريخ المتعارف عليها، أو إننا نرغب في تحقيق المستحيل وتغيير وجهته بما يتناسب معنا ويلائمنا بتكويننا الحالي، وهو ما لم ولن يحدث. نحن في فترة سقوط الأقنعة، أو كما قلنا هي فترة يتخفف فيها التاريخ من أعبائه التي نحن جزء منها، وهي فترة صعبة ومثيرة للكثير من الإحباطات، لكنها أيضاً فترة مهمة للتطهر، ومصارحة ومصالحة الذات، أما ما نعانيه اليوم من عثرات إذا ما صدقنا القول مع وعن أنفسنا، فسوف ينطبق عليه المقولة ذاتها التي تنطبق علينا الآن، سوف يصبحون هم ما سقط وما كان يجب أن يسقط، وبالتالي لن نلتفت إلى الوراء، بل إلى حركة تاريخية ندفعها وتدفعنا إلى الأمام.