الكاتب المصري، الجالس، سواء في المتحف المصري، أو اللوفر، أو بوسطن، لكم أمعنت النظر إلي نظرة العينين لعلي أدرك تلك الرسالة الخفية البادية والمستعصية أيضاً علي الحس. لكم حيرتني تلك السكينة، وهذا الصفاء المدهش، المهدهد للنفس، إذ أقف أمام أي تمثال مصري قديم، تلك النظرة إلي بعيد، إلي نقطة ورائي، تتجاوز الحضور المادي للنحت ولي. مع طول التأمل، والنظر إلي تلك القطع التي وصلت إلينا سالمة، أو شبه صحيحة، أيقنت أن جميع المنحوتات تتطلع إلي نقطة واحدة، نقطة لا يمكن تحديدها، أو تعيينها، بمعني، أننا لا يمكن القول إنها هناك، في هذا الموضع، وفي هذه النظرة التي لا مثيل لها في أي نحت آخر يكمن أحد أسرار الفن المصري، ولأنني أدرك أهمية الاسم كما علمنا الأجداد، وكما سبق أن حاولت التوضيح والشرح فلابد أن أجد حلاً وسطاً، أو اسماً لعله يوضح بعضاً مما أرمي إليه، وقد فكرت، وأمعنت النظر طويلاً، فلم أجد إلا ذلك الوصف القرآني: »الأفق المبين«. الأفق المبين، إنه تلك الجهة التي لا يمكن تحديدها، مع أنها جلية، واضحة فلنتطلع إلي الأفق حيث حد التقاء السماء بالأرض، نتوهم إدراكه وهو مستحيل، عصي، ذلك أننا إذا بلغناه فسوف نفارقه ويفارقنا، وهذا ما ينطبق أيضاً علي الزمن، تلك القوة الغامضة التي نعرف أعراضها ولا ندرك كنهها، من أين وإلي أين؟ وعند أي حد نوجد نحن، وأي مرحلة تلك التي قُدِر لنا أن نشهدها، وماذا بعد؟ وإلي أين؟ إنه الأفق المبين. هذا الأفق القصي، المرئي، الداني، هو ما حاول الفنان المصري القديم أن يشير إليه، أن يبلغه بإبداء المحاولة وليس بالمحاولة ذاتها، فهو يدرك أن التحديد صعب، بل.. مستحيل، لكن الجهد الإنساني في أقصي حالات نُبله لا يعرف اليأس أو الكلل، يستمر في المحاولة بقصد عبور المستحيل، فإن لم يقدر بالفعل، استطاع بالإبداع، بتحميل فنه الرسائل، لتنتقل من جيل إلي جيل، ومن وقت إلي وقت، ومن حد إلي حد، في اتجاه الأفق المبين، من هنا مصدر هذه النظرة الهادئة، النورانية الإشعاع، التي نطالعها في التماثيل المصرية القديمة، سواء من الدولة القديمة، أو الوسطي، وحتي الحديثة، إنه الرضا، إنه اليقين بالطي، ومحاولة إنسانية مبكرة، رائعة، للتعبير عن الوجود الإنساني، والإشارة إلي هنا، إلي حيث كنا بالفعل، وإلي حيث نأمل أن نكون باستمرار، حتي بلوغ »الأفق المبين«. تماماً كما اكتشفوا الأسماء والكتابة، اكتشفوا الفن، إنه بديل العدم، إنه محتوي الخلاصة، سواء مظاهر الحياة اليومية أو الجوهر، من هنا كان المفهوم الخاص للفن في الحضارة المصرية القديمة، الفن حياة، فالمصري القديم عندما ينحت حجراً سواء كان من الديوريت أو الجرانيت أو الحجر العادي، إنما كان يحاول إيجاد البديل للحياة، وإذ يرسم شخصاً أو حيواناً فوق جدار بيت أو معبد، فهذا الرسم له نفس قوة الوجود الفعلي، ويتجاوزه إلي تلك الأزمنة التي لن يبلغها الوجود الأصلي، من هنا كان الاعتقاد أن محو اللوحة يعني محو صاحبها نهائياً من الوجود، واستمر هذا المعتقد سارياً حتي بعد تغير العقيدة، بعد دخول المسيحية إلي مصر، انطلق المؤمنون الجدد إلي المعابد لتشويه الوجوه المرسومة، وفقء العيون المنحوتة، وتحطيم التماثيل، رغم ان هذه الأعمال كانت تبدو في الظاهر مضادة لتراث الأجداد وعقائدهم، لكنها كانت تعبر عن نفسها بمنظور الأجداد أنفسهم، فمحو الصورة يعني القضاء علي الأصل. الفني إذن مواز للحياة، محاولة لإدارك ما يصعب تحصيله منها، ومن هنا كانت هذه النظرة التي أحاول أن أفهمها، أن أستوعبها. ألمح في بعض التماثيل أو الجدران تشوهات، بعضها بفعل الزمن ومعظمها مقصود، غير أن ما أراه من تدمير علي الجدران أو علي أي تمثال لا ينقص منه، لقد صار مع الزمن جزءاً منه ودلالة، لا يوجد أي نشاذ من وجود هذا التشويه، لأنه يتضمن أيضاً جزءاً من التاريخ الطويل، تذكرنا الكسور ومحاولات المحو بوطأة الأحداث، وقسوتها، إنها رؤية لا تقتصر فقط علي التمثال، لكن لنضعها في الاعتبار عند زيارة أي أثر، أو رؤية جدارية مصرية قديمة تم محو جزء منها أو سرقة أي جزء آخر. منذ أسبوعين مضيت إلي معبد أبيدوس في سوهاج، للمرة الثالثة خلال هذا العام، لأتأمل اللوحات الجدارية لإيزيس وأوزيريس التي أبدعها الفنان المصري في عصر سيتي الأول، ذروة الفن المصري كله، بل لا أبالغ إذا قلت الإنساني، ولي فيها شرح يطول أمره، وهيام، ولجت أقدس أماكن مصر القديمة، كان بعض الزوار المصريين يتطلعون بلا مبالاة، ويلمس بعضهم الألوان الرائعة التي يُعَد وصولها بهذه الحالة إلي عصرنا معجزة، وحسن حظ، لكن.. إلي متي ستبقي هكذا؟، كنت أفكر في طقوس الدخول في العصر القديم وما آل إليه المكان الآن، حقاً ما أشد الفارق، إنه التبدل والتغير الذي يطال ما يبدو ثابتاً، راسخاً، مستعصياً علي التبديل، حقاً.. إنه كل يوم هو في شأن، وبعد ذهاب كل شيء لا يبقي إلا وجهه ذو الجلال والإكرام. تصف فاطمة مدكور حضور التمثال، إنه حركة في الثبات، ستحدث فينا حركة ديناميكية إذن فالتمثال غير متجمد بذلك الثبات، تنبثق حركته الداخلية مباشرة إلي داخلنا. قسماته وتضاريسه نابعة من نظرة فنية خاضعة لقوانين ناضجة مدعمة بقوانين روحية عميقة رزينة، بجلسة رياضية موظفة لشكل محدد، بها إيحاء إلي الجدية الشديدة في احترام ووقار شبيهة بطقوس اليوجا حيث تكون أجهزة الجسم في اتزان بحضور قوي وتعمل بأعلي قدرة صحية ونفسية لها، ولأنها جلسة رياضية تستمر لزمن طويل جداً، يصل الإنسان من خلالها إلي مشاعر روحية لا نهائية الحدود في اللاشعور والوعي تشبه العبادة.. وقد تجسم ذلك الثبات الطويل بالمضامين الشكلية والروحية لفن طقوس اليوجا في كل التماثيل المصرية. وهنا أتذكر تلك الجداريات المدهشة في مقابر بني حسن بالمنيا، حيث مناظر الحياة اليومية والرياضية، وتحتوي علي معظم أوضاع اليوجا التي نعرفها، هذا الوضع المعبر عن الثبات في حركة، وحركة في الثبات، عبر من خلاله عن بهاء الروح، وتغلغل عميق في أغوار الحضور الإنساني، وعلاقته بالنظرة الكونية اللانهائية، ومن العينين المتطلعتين إلي ما أطلقت عليه »الأفق المبين« ينبعث الشعاع، ثابت المصدر، ومتدفق في السريان، وتلك عبقرية الفنان المصري القديم الذي لم يذكر اسمه، والذي حاول إدراك الأبدية بالحجر. إنها رسالة خفية تصلنا عبر النظرة التي تفيض بالحيوية، تصاحبها ظلال ابتسامة خافتة فيعبر الوجه عن راحة أبدية، عن سعادة موجودة تنتظر من يبعثها، نظرة تتجاوز الواقع المحدد إلي الواقع الذي لا يمكن إدراكه بالحواس، لذلك تبدو مسافرة أبداً، والمسافر يثير الشجن، إذ انه راحل، والرحيل جالب للحنين دائماً، فما البال إذا كان الرحيل لنظرة تحاول عبور غلالات لا تُري ومجالات لا يمكن الوصول إليها في الكون المنظور والخفي. تستدرجنا النظرة إلي محاولة للرحيل معها أيضاً، المراد الدخول إلي منتهاها، عبرها نفقد الإحساس بواقعنا، وننتمي إلي واقع مغاير، تبعث فينا الإحساس بالسلام والتأهب للإقلاع وللتحري عما لا نعرفه. نظرة سيالة، مستمرة، تختصر، تختزل ملايين النظرات التي تطلعت إليها، كلها متجهة إلي الأفق المبين الذي لا يمكن تحديده، النظرة نتيجة تأملات طويلة وإمعاناً بالفكر والحس، بالبصر والبصيرة مارسه الكهنة القدامي الذين كانوا يحلقون شعور رؤوسهم تماماً كرمز للتطهر، ولا يأكلون البصل أو السمك قبل دخول المعبد، ويرتدون الملابس البيضاء غير المخيطة، تماماً كملابس الإحرام التي يرتديها المسلمون المتجهون للحج إلي مكة، إنه التطهر المستمر الذي يرتقي بالإنسان، الذي يعبر به الحدود المادية لوجوده المؤقت إلي المعني الكامن المستمر حتي بعد فنائه، إنها النظرة المصاحبة لتحرر الروح، لتساميها إلي الشمولية، إلي الرحاب الكونية. يخيل إلينا أن التمثال صامت، ساكن لكنه يتدرج معنا ونتدرج به إلي ارتقاء مستمر كما أنه يتضمن تساؤلاً غامضاً واستمرارية في التطلع الصبور، والموشك علي القومة، كأنه يتعجل اللحظة الأبدية، تلك التي تلوح فيها الروح ويقع الاتحاد فيكتمل الوجود من جديد، من هنا يجيء هذا الشعور بوجود ما يبدو أنه متناقض، تلك الطاعة وهذا الرجاء المكتوم الحاض علي القيام. إنها الطاعة الأتم لمن يدرك حتمية الفناء، ويتضمن أيضاً الرغبة في البقاء، في الوصول إلي لحظة يستعيد وجوده فيها مرة أخري، إنه همس الحجر المنحوت يحاول أن يفضي إلينا بذلك المضمون الروحي الذي أودعه النحات للحجر. في تلك النظرة تستغرقني محاولة تلمسها، إدراك الأنفاس المودعة فيها، أصداء الحياة التي كانت لأصل التمثال أو لذلك الفنان الذي صاغ هذا التشكيل المتضمن للمعني المستعصي، أورثه الفكر والرؤي وحاول من خلاله تجسيد ما لا يمكن إدراكه. إنه »الأفق المبين«. هل كان الملك خوفو واعياً لذلك عندما أطلق علي الهرم الأكبر »أفق«. هل كان الملك رمسيس الثاني منتبهاً إلي المعني الذي طلب من الفنانين تجسيده في أجمل نُصب للحب وصلنا من العالم القديم، منزل أبدية نفرتاري الذي أختتم به إقامتي في البر الغربي للأقصر.