بعد صبيحة الثالث عشر من نيسان من العام 1975، لم يعد العالم هو نفسه، لم يعد لبنان هو لبنان الذي أُخبرنا عنه، ولم تعد حياة أيّ واحد منّا كما كانت عليه، حتّى الذين كانوا أجنّة في أحشاء أمّهاتهم، والذين ولدوا بعد ذلك التاريخ بكثير، والذين سيولدون بعد أجيال، كلّهم، كلّنا، محكومون بما جرى في ذلك الأحد. وإذا كان ترابط الكائنات ودورة الطبيعة يعنيان أنّ سقوط ورقة عن شجرة في الصين يغيّر كينونة العالم، فكيف إذا انطلقت نيران الرشّاشات وسقطت ضحايا وانفجر ما كان يختبئ في الضمائر والصدور ليجرف كلّ شيء أمامه؟ هكذا تتغيّر مصائر الأمم والأفراد في كلّ مكان وكلّ زمان. لولا ما حدث في مثل هذا اليوم عندنا، لكان كثيرون أحياء لا شهداء، وأحرارًا لا أسرى، وأصحّاء لا معوّقين، ومقيمين لا مغتربين، وعاقلين لا مجانين، ولكان كثيرون اختاروا مدارس وجامعات غير تلك التي أجبرتهم الحرب على ارتيادها، ولكان كثيرون أقاموا في بيوت بنوها وأثّثوها لا في بيوت هجّروا إليها، ولكان كثيرون ارتبطوا بغير الذين شاءت الحرب أن يرتموا في أحضانهم ليهربوا من الغربة والوحدة والموت. لولا ذلك النهار لكان كثر من الناس اختاروا البلدان التي هاجروا إليها بدل أن يهربوا على أيّ مركب أو طائرة إلى أيّ بلد يمنحهم حقّ اللجوء إليه ويبيعهم الأمان مقابل مبالغ كبيرة من الضرائب، ولكان كثيرون أنهوا علومهم بدل أن يلتحقوا بالأحزاب، واختاروا أعمالاً لا علاقة لها بالسياسة، ولكانت الأرض ملأى بالأشجار لا بالمقابر، والأثير عابقًا بأغنيات الحبّ والصداقة لا بأناشيد للثورة والوطن والموت. 13 نيسان 1975 ليس منفصلاً في طبيعة الحال عمّا قبله وجعل تركيبة لبنان ما هي عليه، بلدًا تحكمه الجغرافيا وهو مقتنع بأنّه يصنع التاريخ. ولكنّ التغيّرات الجذريّة واستمرار تداعيات ذلك اليوم هما ما يجعلانه محطّة حاسمة في تغيير مسار الوطن وتقرير مصير المواطنين. من هنا أهميّة ألا ننسى ذلك اليوم وما نتج عنه من هزائم لبعض الأفرقاء وانتصارات لآخرين. والدعوة إلى عدم النسيان هي محاولة لتعليم الأجيال الجديدة أنّ الحرب قد توصل قلّة من الأشخاص إلى مراكز المسؤوليّة والقيادة ولكن على جثث من ارتضوا أن يكونوا وقودًا لها، أو راحوا ضحيّتها من غير ذنب. ولعلّ المؤسّسات التربويّة والجمعيّات الأهليّة في المجتمع المدنيّ مطالبة بتخصيص هذا اليوم لتنظيم زيارات لمعوّقي الحرب، وأمّهات الشهداء، وأهالي المخطوفين، وبيوت المهجّرين، والقرى المزروعة ألغامًا، لعلّ جيل الشباب يتذكّر أنّ "الحرب بالنظّارات هيّنة" كما يقول المثل الشعبيّ، وأنّ من شلّت أطرافه وينتظر من يتعطّف عليه ويمسح له أنفه لم يربح من الحرب سوى المعاناة، وأنّ الأمّهات لم يحصدن من بطولات أولادهنّ سوى كلمات التعزية المجّانيّة، وأنّ أهالي المخطوفين يموتون كلّ يوم مئة مرّة وهم يحاولون أن يتخيّلوا مصائر أولادهم فيعجزون، وأنّ المهجّر لم يترك أرضه وبيته فحسب بل حياة وحضارة وجيرة وتاريخًا وتراثًا، وأنّ الأرض المزروعة ألغامًا لا ينبت فيها إلاّ الأطراف الاصطناعيّة. نحن الذين استيقظوا صبيحة ذلك الأحد وعلى اهدابها بقايا من أحلام المراهقة والعشق والنجاح، تمطّينا في أسرّتنا الدافئة ونحن نستمتع بكسل عطلة الأسبوع، تناولنا فطورنا الشهيّ في طقس ربيعيّ جميل، استمعنا إلى زقزقة العصافير قبل أن تخفت أصواتها مع رنين أجراس الكنائس "تذيب روح الله في المتعبين"، كما يصفها الياس ابو شبكة، جلسنا نخطّط لمشروع يوم الأحد قبل أن نعود غدًا الاثنين إلى المدارس، ولم نكن نعلم طبعًا أنّ هناك من قرّر ألاّ تعود حياتنا إلى ما كانت عليه، وأنّ كلا منّا سيجد نفسه مرغمًا على أن يسير في دروب خطّتها له القذائف العشوائيّة ورسمتها الرصاصات الطائشة، وسيكون له لغة ذات مفردات غريبة ومصطلحات جديدة، وستُفرض عليه حياة لا تشبه قطعًا حياة أهله الذين لم يحدسوا بما سيكون عليه مستقبل أولادهم، ولا تشبه حتمًا حياة أولاده الذين حين يستمعون عرضًا إلى أخبار الحرب والقصف والخوف يتصرّفون كأنّهم أمام فيلم سينمائيّ لا يموت فيه الممثّلون بل يقبضون رواتبهم وينتقلون للعمل في فيلم آخر. وهذه هي معاناتنا اليوميّة مع الحرب وعلينا أن نجعلها كلّ يوم رسالة سلام، على الأقل مع أنفسنا.