يالا براعة صيدلياتنا! كم جنّدت من صيدليّ أو بالأحرى "بائع" ملهم وموهوب في ترويج حبوب منع الثقافة! هكذا هي صيدلياتنا وعياداتنا ومشافيا؛ لا تُعيّن إلا الأكِفَّاء...( بتضعيف الفاء)... ظَلْنا طويلا نتعاطى جرعات ثقافية هائلة, ونُقبِل عليها بشراهة غير متناهية, نتجرعها دون استساغة وإن حدث واستسغناها لم يظهر مفعولها ولم تؤتِ نتاجها المرجُوّ... انتظرنا على مضضٍ ساعة المخاض الفكري, بيد أنّ التشخيص كشف عن تثاقف كاذب, لم يبلغ عنق الرحم... لأن الحبوب التي أدمناها بجرعات مفرطة Overdose"" امتزجت بدمائنا فلوثتها, وبدل أن تكون لدينا مناعة ضدّ الجهل والأمية والتّخلف, أضحينا مدمنين حبوبا لمنع الثقافة, فصرنا أفرادا وجماعات "Anti-culture" , ونحن من اخترع هذه العبارة ومن أبدع في ترجمتها وتحويرها وتكييفها حسب مقتضيات أحوالنا... هذه الكلمة المركبة لو بحثنا لها عن مكافئ في لغتنا الأم, لوجدنا عناءً كبيرا لأنها لم تكُ عند أجدادنا, لذا لم يسبقوا إلى إيجاد جذر ثلاثي لها, والأمر كذلك بالنسبة للغات الأخرى.. فلو أخذنا كلمة "Anti" بمفردها وشرعنا في ترجمتها, للفت انتباهنا تعدد استعمالاتها في مجالات شتى بطرائق وصيغ مختلفة: ففي مجال التاريخ والسياسة الدولية: "Anticolonialism" ؛ اسم دال على: مناهضة الاستدمار أو من سمى نفسه استعمارا. وفي ميدان الحروب والمناوشات العسكرية: " "Antimissile ؛ نعت أو صفة تدل على: مضاد الصواريخ. وفي مجال الكيمياء والعلوم التجريبية: "Antifreeze" ؛ نعت واسم : مضاد التّجمد. وفي مجال الطب والصيدلة التي هي محل حديثنا: "Antihistamine" ؛ اسم دال على: مضاد للحساسيّة,كما يدل على ذلك القاموس المزدوج لدار الكتب العلمية بلبنان. إن العقل الذي استحدث المعاجم والقواميس المطبوعة أو القواميس التناظرية والرقمية, لم يلتفت إلى تلك العبارة لأنه غني عنها, لكنها عندما اخترع الشاشات المعروفة ب: "Touch-screens", كلف نفسه عناء التفكير, وتكبد أموالا ضخمة لاختراعها, وعمل جاهدا على إيجاد اسم مركب لها, يتوافق مع مستحدثاتها وأنماط تشغيلها, ثم ما كان منا إلا أن أتينا نحن لنضع في نهاية الأمر ما يكافئها في لغتنا الأم, وقلنا: شاشات ملموسة باليد أو بالقلم, ومنا من اجتهد فقال شاشات لمسية, تماشيا مع لغة صاحبها, فكان بالفعل ملموسا فينا نحن تأثير حبوب منع الثقافة... ولا زال تأثير الحبوب ملازمنا فلم نتحرك قيد أنملة, وبقيت دار لقمان على حالها.. فماذا لو فكرنا في تناول كبسولة قابلية الثقافة أولا, حتى نألفها شيئا فشيئا, ثم نتدرج بعد ذلك في الإدمان لنكتسب مناعة في تناول الحبوب, بعد أن يعمل مفعول الكبسولة, ولنعوّدَ أمعاءنا على الحبوب بعد تلقي المنعكس الشرطي جوابه من العقل وإرسال الإشارة من المعدة, لنتحول من الهضم إلى التفكير, ومن الاستهلاك إلى الإنتاج.. ثمة دليل آخر على تأثير تلك الحبوب التي تبدو موانع استعمالها ابتدأت في الظهور علينا, من خلال آثارها الجانبية على تفكيرنا, لكن يبدو أن الشيء الوحيد الذي نجحنا فيه بامتياز هو الحفاظ على مادّتنا الرّمادية التي لا تزال Firsthand"", وأحافظ هنا على العبارة في أصلها حتى لا تصدمون بترجمتها... قد نتساءل بيننا وبين أنفسنا كلما تأملنا أجهزة التكنولوجيا الحديثة: ترانا قادرين على أن نشفى من إدماننا؟! أم إننا سنُقبل على أكثر من إدمان في المرحلة المقبلة من حياتنا, إذا لم يكن البعض قد غرق في بحره منذ أمد بعيد... إنّ المتأمّل لجهاز المحمول, أو جهاز المكتب, الذي يترجم "كمبيوتر"؛ يدرك درجة الإنعاش التي تشهدها حالتنا المستعصية على علم تشريح الخلايا العصبية, مع أنه لم يُطلب منا أن ننتج أو نصنّع مثله حتى نجد المكافئ اللغوي لتسميته, بل إن الأمر يحتاج إلى إرجاع الأمور إلى أصولها, فلو استحضرنا عمليات الخوارزمي ومدونات مباحثه في "مفاتيح العلوم", وابن رشد, وابن فرحون المالكي, لمثل بين أيدينا الجذر الثلاثي" ح س ب" عند ابن منظور, ولو ربطنا بين وظيفة الجهاز وغاية استحداثه واستخدامه, لخلصنا إلى وجود مكافئ له في لغتنا الأم دون مشقة, ولنجحت ولادة المصطلح دون عملية قيصرية يشرف عليها غيرنا, فيترجم بين أكثر من لغة ليصل إلى لغتنا ويقدم لنا في نهاية الأمر مصطلح" كومبيوتر" بخصوصيته الثقافية المأخوذة أخذا منطقيا من الفعل To compute"", الذي يقابله ولا يساويه في لغتنا الفعل بجذره الثلاثي الأصلي -لا كما ننقله بصيغة غيرنا-: "حَسَبَ", فلا نلجأ إلى نحت ولا نقحرة ولا تكييف فإذا حضر الماء بطل التيمم... فالمشكلة ليست مشكلة عدم القدرة على الترجمة بقدر ما هي مشكلة عقم فكري, حجب عنا مصطلح" الحاسوب" كما حجب عنا أشياء كثيرة في حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية, وأبقاها أسير عقولنا الباطنة تحول دون بروزها "حبوبُ منع الثقافة"...