للمرة الثالثة أتوجّه إلى "الصرّاف الآلي" في حارتي، على رصيف "شارع زهير بن أبي سُلمى"، وأنت ذاهب - عكس اتجاه "نهر تورا" - من "ساحة الجسر الأبيض" إلى "ساحة أبي العلاء المعرّي" في أعلى "أبو رمّانة". في اليوم الأول قالت لي شاشةُ الصرّاف إنه خارج الخدمة، وفي اليوم التالي رأيت صفًّا طويلا من الناس مصطفّين "بالدور"، وذلك ما لم أعهده في السابق (يبدو أنّ الناس خائفين من الغد). كان شارع الشاعر أبن أبي سُلمى، وأنا أسير على رصيفه بجوار النهر، غارقًا في العتمة، فهذه الساعة "دورُه" في قطع التيار الكهربائي. خمسون عاما، ولم يستطع النظام أن يملأ حياة الناس بنور الكهرباء، على حين ملأ المسؤولون جيوبهم بالمال حتى إنهم أخرجوا الفائض وأودعوه في بنوك الخارج... أقول: وكانت القذائف - وأنا أتعامل مع الصرّاف - تصل إلى سمعي بعيدةً، كالحال في سائر ساعات النهار والليل، نحسّ وكأنها تمرّ من فوق الرؤوس. قد تعايشنا. قبضت المعاش، ومقداره عشرة آلاف ليرة سورية، وهو أدنى معاش تقاعدي في الدولة، مع أني كنت أشغل وظيفة مدير في وزارة التعليم "العالي". كان قبل الانتفاضة يساوي مئتَي دولار، واليوم أقلّ من مئة، وغدا أقل وأقل. توجّهت نحو الجسر الأبيض، ومنه إلى "طلعة العفيف"، متابعًا صعودي حتى ما قبل دخلة "سوق الشيخ محي الدين بن عربي"، وتوقفت عند دكان "الحَرَستاني" بيّاع الحليب الشهير، اشتريت من عنده نصف كيلو "لبْنة"، ونصف كيلو زيتون ومثله "عطّون" (زيتون أسود)، وضفيرة واحدة من "جبنة حلّوم". في نزولي عائدًا إلى البيت، رأيت بائع "الفول النابت" والكستناء، مشعلاً مصباحا وهّاجًا فوق عربته، وهو جالس وراءها مع صاحب له يستدفئان بنار أعتقد أنهما أوقداها من أغصان الشجرة التي يستظلان بها. دخلت الزقاق في ظهر السفارة الفرنسية، مارًّا من أمام "رواق" الفنانين التشكيليين. وقرب بيتي هناك "الكولبا" الكبيرة، التي تتّسع لطاولة وكراسي وسرير، جاثمةً على رصيف بيت جاري، الذي كان حتى الأمس مسؤولا كبيرا، وغادر، ولكن لم تغادره "الحراسة" الدائمة له، فقد أمسى من المسؤولين القدامى. دخلت بيتي. تعشيّت - وأنا متدثّرٌ فليس عندي محروقات للتدفئة - متناولاً شيئا من اللبْنة والزيتون مع كاس شاي. ثمّ، على ضوء الشاحن، جلست أكتب هذه التفصيلات المملّة. نسيت أن أخبركم أنّ الحكومة أرسلت اليوم سيارة محروقات إلى ضاحية بدمشق. فلما تجمّع الناس حولها ليشتروا ما يدفئون به أولادهم قصفتهم طائرة ميغ. ومن ناحية أخرى لن أنسى - عملاً بالموضوعية - أن أبيّن لكم أنّ أتحاد الكتّاب يمدّني بتقاعد آخر يعادل تقاعد الدولة. جاءت الكهربا. أرسل إليكم ما كتبت.