حتي بعد أن تخرجت في إحدي كليات جامعة القاهرة.. لم يكن لي إلا ثلاث متع.. الكتاب.. والتجول في كورنيش الإسكندرية وضواحيها.. وعبق أزقتها برائحة اليود.. أما إذا تيسر الحال قليلاً.. ولملمت بضعة جنيهات.. فأشتري القطع النحاسية القديمة من صالات المزادات.. وأضعها أمام عيني طوال الليل.. سعيد بها حتي أغفو.. وأستيقظ لأري هذه التحفة الفنية أمامي مشرقة كالبدر في اكتماله. ولم أكن ميسور الحال حينذاك.. بل حينما كنت أشتري إحدي هذه القطع النحاسية الجميلة.. كثيراً.. لم يكن في جيبي ثمن تذكرة الأتوبيس، فأضطر للذهاب إلي بيتي متخطياً أكثر من 25 كيلو متراً مشياً علي الأقدام.. وأنا طائر.. فرحاً.. بكنزي الثمين. ورأيت في قاعة المزادات طوال سنوات طويلة.. أغرب بكاء.. وأطرف فرحة.. عندما تتعلق عيون الناس من جميع الأطياف وشرائح المجتمع نساء ورجالاً.. مصريين وأجانب.. فالإنسان البسيط الذي يعشق التحف ويحاول أن يستمتع فقط برؤيتها دون استطاعة شرائها حتي عليه القوم الذين جاءوا من أرجاء المحافظات ليحضروا هذا العرس الجميل. معظم هذه الصالات كان أصحابها خواجات يونان.. أو فرنساويين أو إيطاليين.. وكان مقرهم الأساسي في قاهرة المعز.. أو محافظة الإسكندرية مهد الجاليات الأجنبية في مصر. منذ أن يبدأ المزاد حتي انتهائه الذي يمتد لأكثر من أربع ساعات.. انضباط شديد.. لا تري ولا تسمع ولا تشعر إلا بالعيون تتحرك فقط، وأصابع اليد تومئ فقط بالموافقة علي الثمن.. أو تلتزم الصمت في حالة عدم الاستطاعة. وفي يوم فوجئت في إحدي قاعات المزاد بوسط البلد بدخول الملقب بالباشا الكبير.. فؤاد سراج الدين.. وجلس علي أحد الكراسي الوثيرة بسيجاره المشهور.. حتي جاء طقم «ابيسون» فخم.. وصل سعره في المزاد إلي 35 ألف جنيه ولم يجرؤ أحد علي الارتفاع عن هذا الثمن لشعور الباشا بالامتعاض ورسا المزاد عليه. والمعروف أن الباشا فؤاد سراج بعدما ضاقت الدنيا عليه بما رحبت في عهد الرئيس السادات، وممارسة الضغوط عليه.. اضطر فؤاد باشا.. إلي الابتعاد عن ساحة التجارة.. وتخصص في تثمين الأحجار الكريمة.. للزبائن في الداخل والخارج.. واعتبره الخبراء الأول في منطقة الشرق الأوسط في هذه المهنة النادرة. تذكرت هذا وأنا أتجول في شوارع وضواحي محافظة الإسكندرية ولم أكن زرتها منذ سنتين.. وجدت محافظاً قضي علي عشوائيات متراكمة منذ مائة عام.. واهتم ببناء الأرصفة ورصف الشوارع الداخلية.. ورأيت حملات إزالة في منتصف الليل.. حتي رجال المرور وجدتهم مختلفين عن باقي المحافظات في الالتزام والانضباط.. بشكل أزعج بشدة سائقي الميكروباص «البلطجية» والملاكي المتهور.. في الليل قبل النهار.. وعيون رجال المحافظة لا تغفل عن حركة البناء المخالفة.. وسبحان الله.