للفنان حسن يوسف ، والمطربة نجاة – إذا لم تخنى الذاكرة - فيلم سينمائى قديم نسبيا بنفس هذا العنوان ، وإن كان الفرق شاسعا ، أو قل هو أقرب إلى التناقض منه إلى التماثل ، فما دل عليه عنوان الفيلم كان يشير إلى أيام قضاها القوم فى " الهلس " – مع الاعتذار الشديد – أما ما نشير إليه نحن هنا، فهو سبعة أيام سعيا فى التقرب إلى الله عز وجل ، مع الإقرار بأن أحدا لا يستطيع أن يزعم أنه سوف ينال الجنة ، فالله هو وحده العليم المحاسب ،وإنما هو مجرد قياس مع الفارق ، فما هى الحكاية إذن ؟! منذ ما يقرب من خمس سنوات ، كنت فى طريقى ، صيفا ، بالسيارة مع أسرتى الصغيرة فى الطريق إلى الساحل الشمالى ، فإذا بالهاتف المحمول يرن ، وإذا بصوت على الجانب الآخر يعرفنى بنفسه بأنه يسمى الدكتور صبحى الحارثى ، من مواطنى المملكة العربية السعودية ،وأنه يقرأ لى كثيرا ويُقدرنى غاية ما يكون التقدير ،وأنه يود لو أقبل دعوته الشخصية ، لاستضافتى، مع زوجتى الدكتورة زينب حسن ، أستاذ أصول التربية بكلية البنات بجامعة عين شمس لتأدية العمرة بمكةالمكرمةوالمدينةالمنورة .. شكرت للرجل حسن ظنه فى شخصى الضعيف وأريحيته ،ورحبت بالدعوة ، لكنى فى الوقت نفسه – أقول الحق - لم أكن صادقا تماما فى الاستجابة حيث شابها تردد لم أفصح عنه ، لكنه تمثل فى تأجيل متكرر للدعوة ،التى تكررت عدة مرات ، حتى اتصلت به منذ شهر على وجه التقريب ، معلنا له عزمى على " التنفيذ " ، لكن بدون الزوجة ، حيث لا تساعدها الظروف الصحية للأسف على ركوب الطائرة فى الوقت الراهن . وبطبيعة الحال ، لم تكن هذه أول مرة أؤدى فيها العمرة ، حيث لا أستطيع أن أعد مرات قضائها ، منذ أن ذهبت للعمل إلى المملكة عام 1975 ، وحتى عام 2007 ، عندما ذهبت لمناقشة رسالة دكتوراه بجامعة الملك سعود لإحدى الباحثات السعوديات . لكن وجه الاختلاف والتميز هذه المرة ، هو طول الفترة نسبيا قياسا إلى المرات السابقة ، فضلا عن فرص الاستغراق التام فى المهمة ،و كذلك فرصة التمتع الدنيوى من حيث الإقامة ، وبذلك فقد استمتعت روحيا وبدنيا بفضل ذلك الرجل ، بعد فضل الله عز وجل . بدأ الأمر متشبعا بالأريحية منذ اللحظات الأولى ، ألا وهى الحصول على التأشيرة ، حيث تم الأمر وأنا بمكانى فى مكانى ، عن طريق مندوب من القنصلية السعودية ، وفى خلال يومين اثنين . كان السفر على الدرجة الأولى بطائرة الخطوط الجوية السعودية من القاهرة إلى جدة ، ثم من جدة إلى المدينة ، فمن المدينة إلى جدة ، ومن جدة إلى القاهرة ، والإقامة فى فندق هيلتون مكة لثلاث ليال ، وهيلتون المدينة لليلتين ، وشيراتون جدة لليلة . وبدأت الرحلة قبل ظهر يوم السبت التاسع والعشرين من شهر مايو 2010 ، ، حيث استقبلنى هناك مندوبَين عن الدكتور صبحى ، لأنه كان فى الرياض لبعض مهامه العملية ،وأوصلانى إلى مكة. وكان الانطباع الأول ، كما أكرر ، رغم زياراتى التى يصعب عدها للمملكة ، هو أن الإنسان إذا غاب عنها ربما ثلاثة أعوام أو أكثر قليلا ، وعاد ، يجد تغييرا ملفتا للنظر ،ودائما إلى أمام ،وإلى أفضل ، حيث تداعت إلى ذاكرتى تلك الفترة من عام 1975 ، فى أول زيارة ، فإذا ببيوت كثيرة تكاد تقترب من الحرم المكى ،وأسواق غاية فى الكثرة والتنوع ، لكنها اختفت بعد ذلك فى عملية هدم واسعة لتوسيع الحرم ،وخاصة فى عهد الملك فهد . ثم إذا بتوسعة أخرى فى الفترة الحالية تطيح ببيوت وأسواق أخرى ، مما نطلق عليه وصف " أسواق شعبية " . لم أخبر أحدا من عشرات من تلاميذى الذين درست لهم منذ أكثر من ثلاثين عاما وأصبحوا الآن أساتذة كبار فى جامعة أم القرى ، ويكفى الإشارة إلى الدكتور هاشم حريرى الذى شغل موقع وكيل الجامعة ، إلا أنى أُخبرت بوصوله إلى سن التقاعد منذ أيام قليلة ، فضلا عن عدد ممن تولوا منصب العمادة ، مثل الدكتور محمود كسناوى ، والدكتور زايد الحارثى ، وهو العميد الحالى ، حيث علم الرجل بوجودى ، بحكم قرابة لم أنتبه إليها بينه وبين الدكتور صبحى ، فإذا بالرجل يلح على فى اليوم الثالث لزيارة الكلية وتناول طعام الغداء مع كوكبة من أعضاء هيئة التدريس ، سواء ممن سبق أن درّست لهم أو بعض المصريين المعارين ، أو بعض من قرأوا لى ورغبوا فى أن يرونى ويجلسوا إلىّ. وعندما جاءنى السائق لينقلى إلى الكلية ، لمست كم أصبح الفرق شاسعا بين شكل ومكان وتنوع المقر بما كان فى السبعينيات والآن ،ولا أخفى حسرة فى الوقت نفسه بالنسبة للاتجاه العكسى الذى نلمسه فى مصر ، لا حسدا مما يحدث على الأرض السعودية ،لا سمح الله ، حيث ندعو الله لهم بالمزيد من التوسعة والتهيئة والتفخيم والتعظيم ،ولكن حزنا على أن الأحوال بالنسبة لكليتنا المصرية التى توصف بالكلية الأم .. أقدم كلية تربية فى الشرق الأوسط ، التى تدهورت أحوالها ،لا من حيث المبنى والقاعات فقط ، بل من حيث جوانب أخرى كثيرة ، ليس هنا مكان الإشارة إليها بالحديث والتعليق . وعاتبنى البعض لأنى لم أخطرهم بزيارتى كى " يقوموا بالواجب " ،وكانت أكثر المكالمات تأثرا مكالمة الدكتورة آمال المرزوقى أستاذة التربية الإسلامية فى جامعة أم القرى ، والتى حصلت على الدكتوراه من تربية عين شمس فى أوائل الثمانينيات ، تحت إشرافى ،وكان ردى أن زيارتى محددة الهدف ..ألا وهو العبادة ، بغير زيارات ، وبغير تسوق !! كانت درجة الحرارة لا تقل عن خمس أو ست وأربعين ،وكأن الإنسان أمام " فرن " تهب منه سخونة تلفح الوجه ، لكن ، سبحان الله ، لا يشعر الإنسان بقسوة الجو ،وكأن شدة المعاناة فى السعى على طريق العبادة يشعر الإنسان بالرضا النفسى والراحة الداخلية ، مهما قاسى بدنه من الأحوال الجغرافية ، ولم يكن لى من عمل سوى الانتقال من حجرتى بالفندق إلى المسجد الحرام ، عند كل آذان للصلاة ، خمس مرات يوميا ، فضلا عما يتخلل الوجود بالحرم من قراءة القرآن الكريم والحمد لله . كنت أتصور أننا لسنا فى " موسم " حيث بدء اشتداد حرارة الصيف ،و انشغال أعداد غير قليلة من الأبناء بالامتحانات ، لكننى فوجئت بازدحام رهيب ، بحيث لم يكن هناك – كما نعبر – " خرم إبرة " ، مما كان يضطرنى إلى تأدية معظم الصلوات فى الطابق الثانى ، حيث أحيانا ما كنت ألاحظ أن دائرة الطواف حول الكعبة ، كانت تتسع أحيانا لتشمل الساحة كلها التى تحيط بالكعبة . ثم كان السفر فى صباح الأربعاء إلى المدينةالمنورة للإقامة أيضا فى فندق هيلتون المدينة ، حيث كان المرافق شخصا نادرا فى أريحيته وسعة صدره وسمو خلقه ( حسين النحاس ) ،ويبدو أن هذا مصداق لطبيعة أهل المدينة الذين فتحوا أذرعهم لاستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة هو وصحبه الكرام ، بعد أن ضيق عليهم أهل مكة ،وأكد لى حسين أن جذوره ترجع إلى مصر ،وأنه ينتمى إلى العائلة نفسها التى كان ينتمى إليها زعيم الوفد الشهير مصطفى النحاس ! وما لاحظته مما جرى من توسع مذهل للحرم المكى هو نفسه ، وربما أكثر ، جرى لمنطقة الحرم النبوى ،وهدم مئات ،وربما آلاف المنازل والأسواق ليتضاعف حجم الحرم ربما عشرة أضعاف على الأقل ، فضلا عن ساحات شاسعة حوله ، وخدمات مذهلة تيسر حركة الرواد. لكن ، ربما كانت السلبية التى لفتت نطرى ، بالنسبة لما تم تشييده من فنادق ضخمة مذهلة فخمة وأسواق أيضا عصرية كثيرة فخمة ، هو أن الجديد افتقد الهوية العربية الإسلامية ، حيث غلب الطابع الأوربى ، ولا أدرى ، كيف لم ينتبه أولوا الأمر إلى أن العمارة الإسلامية على درجة من الثراء والفخامة والجمال والبساطة مما يمكن لها أن تكسو مثل هذا المكان الذى هو فى قلب الإسلام والمسلمين ؟ لقد كان يحز فى نفسى أن أجد إعلانات المحال الأمريكية الطابع والعلامات والإشارات المماثلة تحيط بكل من الحرمين . إن المسألة ليست مجرد " مكان " و " حجارة " وأخشاب وزجاج وغيره ، ولكن " الشكل " الذى يتخذه هذا وذاك هو علامة حضارة ،ومظهر ثقافة ، ودال على نسق من القيم خاص ،وهو ما روعى داخل الحرمين ، لكن ، كل ما أحاط بهما كان ينطق بالتغريب والأمركة ،وغربة الإسلامية والعروبة ! وبعد قضاء يومين فى المدينة ، على النهج نفسه من الفندق إلى المسجد وبالعكس ، خمس مرات يوميا ، ذهبت إلى جدة للإقامة لليلة واحدة فى شيراتون جدة . وفى ليلة السبت ، يوم العودة ، أقام الدكتور صبحى حفل عشاء على شرفى ، داعيا عددا غير قليل من الإخوة السعوديين الكرام ،ربما وصل إلى الأربعين على الأقل ،وأنا إذ أشير إلى هذا كى أؤكد أن السهرة لم تقتصر على تناول الطعام ، بل سبقها ولحقها نقاش واسع بينى وبين معظم الحضور فى قضايا تربوية وثقافية مختلفة ، ربما يحتاج الحديث عنها إلى مقال آخر ،وخاصة الحوار الطويل الذى دار بينى وبين محرر من جريدة المدينة ، جرى ظهر اليوم الأخير ، السبت الخامس من يونيو ، حيث عدت إلى القاهرة ،وأنا أشعر بما لم أشعر به طوال مرات ذهابى الشابقة المتعددة ، حيث كانت المتعة الروحية ترافقها متعة إقامة ، فكأن ذلك كان دلالة على طبيعة الإسلام الذى يسعى إلى أن يستمتع المستظل بظله بالدنيا ، فى حدود السوية والاستقامة، كما يستمتع بالدين ، عبادة ومعاملة ،وكان ذلك ، بعد الله عز وجل ، بفضل هذا الإنسان النادر حقا ، الدكتور صبحى الحارثى ، الذى ناقض ظاهرة أصبحنا نتعايش معها بكل الأسف وبكل الحسرة ، عندما نرى الكثرة الغالبة من الناس ، إذ يلقى علينا أحدهم علينا التحية والسلام نتساءل : يا ترى فى مقابل ماذا مما هو مادى ونفعى؟!