ماذا حدث حين توقف الزمن، الساعة الثانية عشرة يوم 31 ديسمبر، ولم يأت عامٌ جديد؟! لما راحتْ الرغبةُ- بفتنةٍ وإغراء- تداعبُ عيونَ مدينتي، قلنا: "ستمتد الموائدُ بعرض الفرح، وستُعد الأطعمةُ بحجم الجوع، وستدور الكئوسُ كسواقي الريح في ليالي الشتاء، وستلتف أيدينا، بنعومة ورقة، ضاغطةً حول خصورٍ لينة ممتلئة، "إذًا سآكل من كل الموائد، وأشرب من جميع الكئوس، وأراقص كلَ النساء"؛ لأننا حين نودع آخرَ ليلةٍ في ديسمبر، ونستقبل أولَ فجر يناير، سوف تنتابنا حالةٌ من الهيام المرتقب لممارسةٍ طقسية لسهرٍ سنوي طويل، ابتهاجًا بعام يموت، وعامٍ تقوم قيامته من جديد، وسيكون من اللازم علينا أن نطرح همومنا في هذه اللحظات المباركة، ونلقي بها إلى قاع الجحيم: "ستذوب صراعاتنا الانتخابية، والسياسية، وستتحول شفاهنا إلى الكلام همسًا، والسر بوحًا"، سنولد من جديد، حين تُجهز قاعات اجتماعنا المألوف حتى يأخذ عددٌ من الأصوات يضرب طبلةَ آذاننا بعنفٍ أولاً، ثم يهدأ فيصير أنعمَ من الحرير، "دخلت أم ما زلت متمكنًا بالخارج؟"، ولما لمست قطعةُ لحمٍ، قطعةُ لحم دافئة، كانت منفلتةً من إحدى فتحات ثوبٍ أنثوي معطر بالأنس، لمستني فاشتعل الماءُ فوق شفتي، وبانتْ لي الموسيقى والألوان أشباحَ راقصةٍ متماوجةٍ في المرايا الحائطية المصقولة، فعانقتني الرغبة، وتمنيت لو ركلت- بكل قوةٍ وعنف- بقايا وعيي، وفي لحظة الامتزاج بين وقتٍ مضى وآخر ينسلخ عنه، كفت الأصواتُ وانطفأت الأضواء، بعدها- أو معها- جذبتني شفتان ملتهبتان ممتلئتان، امتصتا لساني فتذوقت آياتٍ من طعم لسانها المخمور، وضربتْ أسنانها بأسناني، ففهمت أنها تقول لي: "في صحتك"، وحينما أُضيئت قاعتنا أنسربَ لسانُ الأنثى بسرعة فتنبهتُ – نصفَ يقظان- وانتابني شعورٌ بأننا نصف متيقظين كذلك، حتى تطلعت عيوننا- وقد بدت بلون الشفق- إلى الساعة الكبيرةِ الفخمةِ المتوسدةِ قلبَ قاعة مدينتي، قاعة اجتماعنا السنوي- كانت عقاربها متعانقةً- لا زالت- عند الثانية عشرة، قلنا: "مبارك باسم الرب عامنا الآتي، ومباركون باسم الرب من يحيون فيه، ومباركة هي كل أوقاتنا"، لكن الساعةَ الحائطيةَ بدتْ وكأن عطلاً أصابها، وبحركةٍ مفاجئة عفوية متزامنة، نظرنا إلى ساعاتِ معاصمنا وجيوبنا، كانت – كلها- مثبتةً عند الثانية عشرة، وللحظة عريضة تسمرنا وتساءلنا في أنفسنا: "أين عامنا؟ وما الذي أخره هذه المرة؟!" ولما بدأ تأثيرُ الأضواءِ والألوان والشراب ينزاح تدريجيًا، ويغادر رءوسنا الثقيلة، أخذنا نفرك عيوننا حتى سرتْ فيَّ رِعشةٌ باردةٌ مثلجة، حين انتابني حَدْسٌ كالإلهام، يقول لي: "إن ساعتي لا شك مختلفة، وإن زماني ليس صنمًا لا يتحرك"، لكني أصبتُ بحزنٍ جنائزي فرعوني، حين تأكد لي، أن إلهامًا شيطانيًا هو الذي أغواني، وأن نزيفَ مشاعري الملتاعةِ من العبثِ لملمته، لمّا أدركتُ "أن ساعتي تمسكت- هي الأخرى – بصمتها القاسي، وأن عامي الجديد اغتالته يدٌ آثمة لا بد، وهو في طريقه إلينا"، وقد راحت ألسنةٌ حادةٌ جدًا كحد سيفٍ عربي قديم- راحتْ تجذب الكلامَ جذبًا عنيفًا، ثم راحت – أيضًا- تلقي به في أعماقٍ عميقةٍ جدًا من التكهنات، وتمتماتٌ سحريةٌ وشعرية ودينية، حاولتْ تأسيسَ ملاحمٍ تفسيريةٍ عريضةٍ جدًا، وأيدٍ متشابكةِ الأصابع راحتْ – هي الأخرى- تلعب في آلاتِ أوقاتنا العاطلةِ (أو المعطلة)، فشعرنا بأننا مغلوبونَ على أمرنا، وبأننا نعيشُ خارج التاريخ، وأن زماننا صار ضدنا، وأدركنا أننا يجب أن نفعل شيئًا له قيمة يعيد إلينا حركةَ الزمنِ المتوقفِ، ويجلب – كما تعودنا دومًا- عامًا جديدًا، بهيجًا مرحًا، هنيئًا، فحاول بعضنا إصلاحَ آلة أو اثنتين، وحاول متخصصٌ في الزمن- يحمل شهادةً أجنبية- أن يمنحنا اليقين بأن ما حدث، حدث في أماكن كثيرة، وأن الموضوع- برمته- ممكن أن يكون مجردَ حلمِ ليلةِ شتاءٍ صار يختنق فيه نسيمُ مدينتنا الليلي، واحتماليةُ أن كائناتٍ فضائيةً تحسدُ زماننا، فتدخلتْ وابتلعتْ أجزاءَ أوقاتِنا العاطلة، فتوقفت آلاتُها عن الرصد اليومي المعتاد، هذه الاحتمالية داعبتْ أوهامَنا، فأخذنا نصفقُ لها بكل قوةٍ ممكنة ومخزونة في أيدينا الغليظة، أما العالمون بالأشياء اللامرئية، فقد صوصوا – بالوجدِ الصوفي- وهم يطوحون بعمائمهم الخضراء والبيضاء: "ربما وربما، ربما وربما"، وحين فكر ذوو الخروجِ من المآزق صرخوا – بالثورة الحمراء والدم الذكي"حطموها، حطموها"، فتراكمتْ بقاياها، تراكمتْ بقاياها، حتى ارتفع غبارٌ سد آذاننا، وملأ عيوننا وصدورنا بالفتنة، غبارٌ له ملمسُ الحظِ، وطعمُ النعاسِ، لدرجة أنني شعرتُ – بيقين- بأن متاعبنا قد انتهت – وإلى الأبد- وأحسسنا، حينئذٍ، بدقاتِ ساعاتٍ عديدةٍ متناغمةٍ مرحةٍ منتظمة، وقد سرتْ- في رءوسنا- حنانًا ونعومةً وخفةً حقيقيةً أخذتنا- هذه الدقاتُ- إلى أحلامٍ كونيةٍ، وضحكنا بسرورٍ له طعمُ الانتشاءِ مع إحساسٍ بالتمايز لا يُنكر، كما لا يمكنك أن تُنكِرَ أن حلمًا بحجمِ الفراغ كان يحضن صدورنا، حتى إن أجسادنا صارتْ أكثرَ خفةً، وكأنها ستتحرك في الفضاءِ الوسيع، وأنه يمكن- الآن فقط - أن نطيرَ بين النجومِ والأكوانِ، وبأننا أصبحنا قادرين على الرسوخِ الوجداني وممارسةِ المتعة، متعة أن يضمنا ذاتُ الزمنِ، بنفسِ الانتظام، بالتساوي العادل، وأحسسنا بأننا قد بدأنا نكبرُ وننمو وتزداد قامتُنا ارتفاعًا ورءوسُنا عزةً، لكن أمنيةً وحيدةً- وأخيرةً- راحتْ تداعبُ مخيلتنا الجماعية- أمنيةٌ لم تَعُد لنا سواها قبل النوم، تزورنا وحين اليقظة، أمنيةُ أن ننتصرَ يومًا على الموت، أمنيةُ أن أصيرَ سرمديًا متوحدًا مع الفضاءِ ضد .. ضد الزمن.