(ما نفع القَلْبَ شيء مثلُ عُزلةٍ يدخل بها ميدان فكرة). النفع إيصال الفائدة، والقلب: القوة المستعدة لقبول العلم، والعزلة: انفراد القلب بالله، وقد يراد بها الخلوة التي هي انفراد القالب عن الناس وهو المراد هنا، إذ لا ينفرد القلب في الغالب إلا إذا انفرد القالب، وميدان: مجال الخيل استعيرها هنا للأفكار، إذ ترددها في مواقعها كتردد الخيل في مجالها، والفكرة: سير القلب إلى حضرة الرب، وهي على قسمين: فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان. لا شيء أنفع للقلب من عزلة مصحوبة بفكرة، لأن العزلة كالحمية والفكرة كالدواء فلا ينفع الدواء من غير حمية، ولا فائدة في الحمية من غير دواء . فلا خير في عزلة لا فكرة فيها، ولا نهوض لفكرة لا عزلة معها، إذ المقصود من العزلة هو تفرغ القلب، والمقصود من التفرغ هو جولان القلب واشتغال الفكرة، والمقصود من اشتغال الفكر تحصيل العلم وتمكنه من القلب، وتمكن العلم بالله من القلب هو دواؤه. وغاية صحته وهو الذي سماه الله القلب السليم، قال تعالى في شأن القيامة: "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم". واعلم أن في الخلوة عشر فوائد: الأولى: السلامة من آفات اللسان، فإن من كان وحده لا يجد معه من يتكلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "رحم الله عبداً سكت فسلم، أو تكلم فغنم". الفائدة الثانية: حفظ البصر، والسلامة من أفات النظر، فإن من كان معزولاً عن الناس سلم من النظر إليهم وإلى ما هم منكبون عليه من زهرة الدنيا وزخرفها . قال تعالى: "ولا تمدن عينيك إلي ما متعنا به أزواجاُ منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه". الفائدة الثالثة: حفظ القلب وصونه عن الرياء والمداهنة وغيرهما من الأمراض. قال القشيري: فأرباب المجاهدة إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر الرديئة لم ينظروا إلى المستحسنات أي من الدنيا، قال وهذا أصل كبير لهم في المجاهدات في أحوال الرياضة. الفائدة الرابعة: حصول الزهد في الدنيا والقناعة منها، وفي ذلك شرف العبد وكماله، وسبب محبته عند مولاه. لقوله صلى الله عليه وسلم: "ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس". الفائدة الخامسة: السلامة من صحبة الأشرار، ومخالطة الأرزال، وفي مخالطتهم فساد عظيم وخطر جسيم. قال سيدي عبد الرحمن المجذوب:" الجلسة مع غير الأخيار ترذل ولو تكون صافياً". الفائدة السادسة: التفرغ للعبادة والذكر والعزم على التقوى والبر، ولا شك أن العبد إذا كان وحده تفرغ لعبادة ربه وانجمع عليها بجوارحه وقلبه لقلة من يشغله عن ذلك. الفائدة السابعة: وجدان حلاوة الطاعات، وتمكن المريد صادقاً حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما يجده في العلانية، وحتى يكون أنسه في الوحدة وروحه في الخلوة، وأحسن أعماله في السر. الفائدة الثامنة: راحة القلب والبدن، فإن في مخالطة الناس ما يوجب تعب القلب بالاهتمام بأمرهم ، وتعب البدن بالسعي في أغراضهم، وتكميل مرادهم وإن كان في ذلك الثواب، فقد يفوته ما هو أعظم وأهم، وهو جمع القلب في حضرة الرب. الفائدة التاسعة: صيانة نفسه ودينه من التعرض للشرور والخصومات التي توجبها الخلطة، فإن للنفس تولعاً وتسارعاً للخوض في مثل هذا إذا اجتمعت بأرباب الدنية وزاحمتهم فيها. الفائدة العاشرة : التمكن من عبادة التفكر والاعتبار، وهو المقصود الأعظم من الخلوة. وفي الخبر: تفكر ساعة خير من عبادة سبعين ساعة.