انعقد المؤتمر الدولي للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم عن «الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي»، وتمت أعماله وجلساته وورش عمله على النحو الفخيم الذي شهد له جميع المتابعين. ونتوقف قليلا مع البيان الختامي الصادر عن المؤتمر والتوصيات التي سمعناها، لنقرأ شيئا مما بين سطور هذه الكلمات، وكيف صدرت لتكون اسهاما في حراك حقيقي ينفض التعصب الطائفي والمذهبي ويسهم في بناء الحضارة. لقد انطلقت التوصيات من أن الاختلاف سنة جعلها الله في خلقه لينظر: هل يحسن الناس إدارتها فيتعارفوا ويتعاونوا ويتكاملوا أو يتنازعوا فيفشلوا وتذهب ريحهم وتخرق سفينة نجاتهم. وبذلك يضع المؤتمر الجميع موضع التحدي والاختبار ويكون معيار النجاح هو عبور سفينة الاختلاف إلى شاطئ التعارف والتعاون بدلا عن الصراع والشقاق. وتؤكد التوصيات على أن المستحيل ممكن، وأن الاختلاف الفقهي طريق لحل المشكلات لا أداة لتفاقمها وان إدارته بطريقة علمية رشيدة وسيلة فاعلة للإسهام في الحياة والإحياء فاستثمار الخلاف الفقهي في كافة عصوره دعم التماسك الاجتماعي المعاصر والمشاركة في عمليات العمران والإسهام في الحضارة الإنسانية المعاصرة. لقد عالجت التوصيات أخطاء كثير من الذين تعاملوا سلبيا مع الاختلاف الفقهي والإفتائي بإلغائه وعدم النظر إليه تارة أو بالمغالاة فيه وتقديس ما ليس بمقدس منه تارة أخرى، وكان الطرح الأمثل والأرشد هو الاستثمار للانتفاع بالثمرة الناضجة وتجنيب مالا يمكن الانتفاع منه، وهو ما يعبر عنه بالانتقاء الواعي، مع موازنة بين المقدس وغير المقدس وبين الثابت والنسبي؛ فتاريخ الاختلاف الفقهي ليس كله مقدسا بل فيه ما يمكن أن يعترف أنه مر بفترات متفاوتة من الصعود والنزول وأنه يمكن التعلم واستلهام الخبرة والانتقاء من كافة مراحله التاريخية. ومن ثم حدد المؤتمر الموقف الأرشد من المذاهب بما يفيد استثمارها والانتفاع منها ويوازن بين حقها التاريخي وبين واجبنا في أن نعيش عصرنا، فالمذاهب الفقهية الإسلامية جميعها تجربة رائدة يجب استثمارها والإفادة منها. هذا من ناحية. ومن الناحية الأخلاقية والثقافية وهما منطلقات لا يجو إغفالها بالتوازي مع الجانب المعرفي والأكاديمي أكد المؤتمر على وجوب نَشْرِ ثقافةِ احترام الاختلاف المذهبي انطلاقًا من أن احترام الاختلاف حجر أساس في التماسك الاجتماعي وتحقيق الاستقرار، ودعم هذا الأمر بكافة الوسائل في مجال التعليم بمراحله المختلفة. وكعادة ما يصدر عن الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم لم يغفل الجانب العملي التطبيقي في تفعيل المبادئ النظرية وتحويلها إلى برامج عمل واقعي، وهذا ظاهر في أكثر من توصية من التوصيات. فمثلا على الجانب التكنولوجي المعاصر حثُّ دُورِ الفتوى وهيئاتِها ومؤسساتِها على أن تكون سابقة ليد المتطرفين للاستفادةِ مِنَ الوسائلِ التكنولوجيةِ الحديثةِ وتطبيقاتها الذكية في دلالة المستفتيين على الاختيار الفقهي الرشيد المبني على الأصول العلمية، وعدم تركهم نهبا للأفكار المتطرفة أو الحيرة الافتائية. وعلى الجانب التعليمي الشرعي توصي الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم الباحثين وطلاب الدراسات العليا في الدراسات الشرعية إلى العناية بدراسات “الفقه المقارن” تأصيلا وتطبيقا، بالاستعانة بالنصوص والمذاهب وتجربة الفقه الإسلامي الوسيع. وفي جانب الدراسات الاجتماعية والإنسانية يوصي المؤتمر الباحثين وطلاب الدراسات العليا في الدراسات الشرعية والاجتماعية والإنسانية بتجديد تقويم تجارب التحاور المذهبي للابتعاد عن المثالب والتمسك بالمزايا، وكذلك دراسة أثر التجربة المذهبية في مراحلها وأحولها على المجتمعات المسلمة إيجابا وسلبا. ويدعو المؤتمر مراجع المذاهب المختلفة ومؤسساتها إلى دمج برامج تربية مذهبية رشيدة مقرونة ببرامج تدريس المذاهب لكافة مراحل التعليم. ولا شك أن أمثال هذه التوصيات تجعل البحث العلمي مقرنا بالتربية الأخلاقية هو السبيل للتعامل مع المشكلات بدلا من السير العشوائي. إن التوصيات لم يفتها المشاركة الوطنية وانكار التجاوزات التي يقع فيها كثير من المتسترين بالمذاهب مثل محاولات الاستغلال المذهبي التي تمارسها بعض الجماعات. وتحدد التوصيات إطارا لما يمكن تسميته بالتجديد المذهبي فالتجديد هو الحل الأكيد لمشكلات كثيرة غفلنا عنها كثيرا ؛ فعلماء المذاهب مدعون إلى العناية بتجديد مذاهبهم نطريا عن طريق الإجابة عن الأسئلة العصرية حول المذهب أصولا وفروعا والتي يتناولها الشباب على وجه الخصوص، وعمليا بإرشادهم إلى الطريقة المثلى للتعامل مع أرباب المذاهب المختلفة من غير تعصب ولا تفريط. إنها حزمة من التوصيات مثلت منظومة متكاملة وخرجت من عقول سهرت لاستثمار الخلاف والإسهام الحقيقي في الحضارة الإنسانية. إنه صوت إنساني مساهم في البناء والمشاركة مع المنظمات الإنسانية الكبرى. وليس مستغربا بعد هذا النجاح الباهر للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم أن ندعو المنظمات الدولية وعلى رأسها الأممالمتحدة إلى منح الأمانة الصفة الاستشارية باعتبارها جسرًا واصلًا بين الهيئات والمؤسسات في مجال الإفتاء وتجديد الخطاب الديني