داعبت فكرة التسجيل والتأريخ لحركة التصوير الحديث في مصر خيالي منذ أمد بعيد، وقد طرأ هذا الخاطر علي ذهني منذ عام 1978 عندما وقعت يداي علي ترجمة انكليزية أصدرتها مؤسسة بنجوين من كتاب "حياة الفنانين" (Lives of the artists ) لمؤلفه جورجيو فازاري G.Vasari، ومنذ ذلك الحين دار في ذهني سؤال... يا تري ماذا كنا سنعرف في العصر الحديث عن فنون عصر النهضة ما لم يسجل المعماري الفنان والمؤرخ فازاري (1511-1574) لحياة أشهر فناني عصر النهضة والأعمال التي أنجزوها؟ ... بالقطع الإجابة هي أن فازاري وضع أساسا من ابرز الأسس التي اعتمد عليها مؤرخي الفن المتتابعين، واتخذوا من كتابه نقطة انطلاق بدءوا من عندها تتبع تطور الحركة الإبداعية للفن من القرن الرابع عشر وحتى القرن الواحد والعشرين. ولكوني مصريا فقد تدعم يقيني حول أهمية التسجيل، عندما تخيلت كيف كان للبشرية أن تتعرف علي التاريخ الفرعوني لو لم يسجل الفنان المصري القديم للأحداث والأفكار التي جرت في زمانه، لقد سجلها علي جدران المعابد والمقابر ونحت التماثيل، لتبقي في مواجهة عوامل الطبيعة والزمن، لنعرف منها تاريخا سيظل مفخرة للبشرية جمعاء. التسجيل إذا، هو كلمة سحرية لأي عمل قد يبدوا قليل القيمة في زمانه، لا يشعر المعاصرون به، وقد لا يكترثون له، لكنه أمر عظيم القيمة وبالغ التقدير لدي الأجيال اللاحقة، تلك الأجيال التي تبحث عن ماضيها لتعتز وتفخر بما حققه الأسلاف من إنجازات ونجاحات، أو لتأخذ من هذا الماضي دروسا وعبرا تساعد في تفادي السلبيات و تجنب الانكسارات. تلك هي الظروف التي دفعتني للاجتهاد - قدر جهدي واستطاعتي - في تسجيل جانبا ولو ضئيلا من الأحداث التي تخص حركة الفن البصري الحديث في مصر, فبعض تلك الأحداث كنت قريبا منها ومن فنانيها، وفي بعض الأحيان الأخرى تتبعت أحداثا تتعلق بفنانين من جيل سابق علي جيلي، عن طريق التنقيب عن المستندات واللوحات الخاصة بهم، كما اعتمدت أيضا علي الحكايات والروايات التي سمعتها تتواتر علي لسان شخصيات أصبحت حاليا طاعنة في السن ( ترحل في أي وقت ومعها كنوز من المعلومات) يتحدثون فيها عن رواد الفن الحديث في مصر، وعن الأجواء الثقافية والفنية التي نشطوا فيها، والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مروا خلالها. ومما يثلج صدري أني صادفت في مجتمعنا الحاضر مجموعات لها وزنها سواء من جيلي أو من الأجيال الشابة الصاعدة تتشارك كلها في الاهتمام بتسجيل مجريات الحركة الفنية المصرية الحديثة، ومما يساعد علي ذلك انتشار الصحف مطبوعات التي تهتم بالفنون البصرية، بالإضافة إلي وسائل الإعلام المسموع والمقروء، ولا ننسي بالقطع وسائط الاتصال الاجتماعي الالكتروني الحديث، التي صارت واقعا لا يمكن تجاهله. إن تسجيل مجريات حركة الفنون البصرية في مصر عمل شاق ومجهد، لا يقدر عليه شخص بمفرده ، فهو عمل يحتاج إلي تضافر جهود فردية عديدة ومتنوعة، تتطلب دعما ماديا ومعنويا سواء من المؤسسات الخاصة أو العامة، لكن رغم كل تلك المصاعب التي تعترض عملية التسجيل والنشر فإنه بإمكان الفرد الواحد الإسهام ولو بقسط - مهما كان يسيرا - في انجاز جانبا من تلك المهمة السامية.. وفي هذا المجال، وفي إطار حماسي تجاه الفن، قدمت بتواضع عددا من الكتب والأبحاث التي تلقي الضوء علي جوانب من حركة الفنون البصرية المصرية الحديثة منها علي سبيل المثال: كتاب " لبيب تادرس – أغنية لم تكتمل" 2007 كتاب " محمد ناجي كما لم يعرف من قبل" بالاشتراك مع الفنان عصمت داوستاشي ، 2009. كتاب " سند بسطا – الفنان البورجوازي" 2010 كتاب " محمد ناجي في الحبشة" بالاشتراك مع الفنان عصمت داوستاشي 2011 وأخيرا يسرني إعلام الأصدقاء ومحبي ومتذوقي الفن أنى بصدد إصدار (في الأسبوع الأول من شهر يونيه 2012) بحثا ملخصا قدمته في صورة كتاب بعنوان "المفاهيميه في التشكيل العربي"، يؤرخ بإيجاز لبدايات الفن المفاهيمي بمصر والمنطقة العربية، وهو موضوع لم يأخذ حقه من قبل في أدبيات الفنون البصرية في مصر وتفتقر المكتبة العربية بشكل عام إلي هذه النوعية من الكتب، وأعتبر هذا الكتاب مقدمة أتعشم أن تمكني الظروف مستقبلا (إذا توفرت الإمكانات المادية ) من إعادة إصداره في صورة أكثر اتساعا وتفصيلا.