تفتخر جميع الأمم بتاريخها مهما كان هزيلاً ومتواضعاً، بل تضطر أحياناً إلى سرقة آثار شعوب أخرى كي يكون لديها شيء ما من التاريخ والحضارة مثلما تفعل الدولة الصهيونية، ومثلما فعلت العديد من الدول الغربية التي سرقت آثار دول الشرق الأوسط موطن الحضارات وزينت بها متاحفها وشوارعها حتى أن بوابة عشتار تتواجد في متحف بيرغامون في برلين، فقد تفاوض الألمان بعد انهيار الخلافة الإسلامية على شحن جزء من بوابة عشتار إلى المانيا، عدا عن سرقات الإنجليزية لجزء كبير من آثار الدول العربية خصوصاً المصرية، ومن يزور متحف اللوفر سوف يتسأل فوراً ماذا تفعل هناك كل تلك التحف المصرية الأثرية؟ ينعتوننا بالتخلف ويسرقون آثارنا ويدمرون تاريخنا؛ لا أحد يلوم من يبحث عن مصالحه ويستغل الشعوب ويسرق الحضارات في سبيل الأطماع المادية أو البحث عن قطعة من التاريخ يلصقها على جدرانه أو يزين بها متاحفه، أو يخبر بها أحفاده بأنه كان له تاريخ ما وإن كان مزيفاً ومسروقاً؛ فإن لم يحقق أطماعه المادية ولم يستطع سرقة كل ما يمكنه الاستيلاء عليه، لجأ لكل الوسائل لتدمير تلك الآثار والحضارات وليس أدل على ذلك مما حدث في العراق وسوريا وفلسطين ويمتد ليشمل اليمن وليبيا. من السذاجة الاعتقاد بأنها حروب على المصادر والثروات الطبيعية فقط، بل هي حروب منظمة وممنهجة على التاريخ والحضارة وكل ما يشكل الهوية الحضارية لمنطقة الشرق الأوسط مهد الحضارات بلا منازع. ومن ضمن صور هذا العدوان الشرس ليس فقط سرقة الآثار وتدميرها بل وأيضاً تقزيم تاريخ هذه الأمم وتحقير هذا التاريخ؛ وزرع هذا الاستخفاف والاحتقار للتاريخ في أبناء وأحفاد هذه الحضارات. لا يمكن أن نستمر في نقد الآخر ولومه لعدوانيته ولسرقته التي استمرت لعدة قرون ولا تزال مستمرة ولكننا لابد أن نصارح ذواتنا، بأننا نساهم بشكل كبير في إلقاء الغبار على تاريخنا؛ الغبار على الكتب ورفوف المكتبات، والغبار في العقول التي تحتقر ذاتها وهويتها، والغبار في الفكر الذي تخلى عن كل جذوره واستنبت لنفسه جذور غربية وغريبة عن هويته ومعتقداته واخلاقه بل كل كينونته الثقافية والذاتية. من المؤسف والمُحزن أن تتم مهاجمة صحيح البخاري وتوجيه الإهانات له ولفقهاء آخرين غيره كرسوا حياتهم وعقولهم في خدمة الدين والإنسانية، فهل سمع أي منا أن فرنسي ما قام بمهاجمة فولتير وتوجيه الإهانات له بعد موته بقرون طويلة؟ هل سمع أحد منا بأن بريطاني ما قام بشتم شكسبير شبه المقدس لديهم؟ فلماذا نحن من دون جميع الأمم نكيل الإهانات والاتهامات لتاريخنا ورموزنا وحتى لما تبقى من هويتنا؟ لماذا يتجرأ السفهاء منا على الحكماء والعقلاء؟ لماذا فقدنا المعيار العلمي لمن يحق له أن يتكلم ومن يجب أن يصمت؟ أم أن هناك من ينفذ مخطط تدمير الهوية الثقافية والدينية بإحكام وبتصميم، لأنه بعد أن تتم سرقة الآثار وتدمير ما يلتصق منها بالأرض لابد من تدمير ما يلتصق منها في العقول! فلنذهب برحلة قصيرة جداً عبر التاريخ، ولننظر إلى إنجازات المسلمين من حيث الكتابة، الزخارف، العلوم، فن العمارة، الأدب، علوم الفلك والبحار، علم الفراسة، تدوين الحديث، المذاهب الفقهية، تبويب الأحاديث وعلوم الفقه والسنة، بناء المدن، بناء الفرد والمجتمع، الزراعة، الكيمياء، تنظيم الشوارع، الحضارة الفكرية والإنسانية، الترفع عن الانحطاط الأخلاقي الذي غرقت به بعض الحضارات الأخرى، حتى في أسوء عصور الحضارة الإسلامية لم يتواجد انحطاط أخلاقي تقشعر منه الأبدان، تربية الطفل، تأسيس الأسرة، تنظيم علاقات المجتمع وأشياء أخرى لا مجال لحصرها لتعددها وتنوعها وثراءها. لدى الاطلاع على كل هذا ولو بشكل سريع، لابد من الشعور بالألم والحسرة لحضارة تخلى عنها أصحابها لما هو أدنى، لابد من الشعور بالألم لأن شبابنا لا يدركون الميراث النادر والذي لم يحصل مثله على الأرض ولا يقرؤون عنه ولا يعرفون عنه إلا بعض كلمات ترددها الإذاعات أو مواقع الإنترنت. ولكن الأهم من هذا الغبار الذي يعلو العقول قبل المكتبات، هو السؤال التالي: حين قام الغرب بكل هذا التدمير الممنهج والمستمر، ألم يدرك بأنه يدمر مسيرة حضارة كانت سترقى بالبشرية لأعلى الآفاق؟ ألا ندرك نحن أصحاب هذه الحضارة بأننا فتحنا أبواب العلم والتقدم للبشرية جمعاء وأننا بتخلينا عن تاريخنا ندمر الأمل بحضارة جديدة تُبني ومن جديد على الإيمان والأخلاق والمساواة ولا يكون العلم بها وسيلة للكسب، ولا تكون الثقافة بها وسيلة لغسل أدمغة البشر، ولا يكون المال بها وسيلة لإفساد الشعوب، ولا تكون السلطة بها وسيلة لإلغاء إرادة الانسان. ربما أعظم ما قدمه الإسلام لنا هو كرامة الانسان وحريته وأن أرقى منزلة للإنسان هي عبوديته لله تعالى، وأن يترك العبودية للبشر أو للحجر، هذه العبودية التي تقود للحرية وللعزة لن تستطيع أية قوة استعمارية أو صهيونية أن تدمرها، وربما هذه العبودية هي التي تقض مضاجعهم، لأنه الشعوب التي لا تُستعبد لن تتوقف عن المطالبة بحريتها وبأرضها وبكرامتها مهما طالت غفوتها. الغبار مهما تراكم فنسمة هواء تبدده، وأمة لديها هذا التاريخ لا تستطيع أن تتجاهله لأن عمقه وتجذره وعظمته لا تُستمد من ذكريات الآباء والقصص للأحفاد ولم يأتي من سرقات منظمة ولا اقتلاع لما ليس لنا، إنه تاريخ وصل لدرجة من التميز بحيث لا يمكن حتى للذاكرة أن تتجاوزه، فهو يفرض وجوده علينا رغم النسيان، وهو ساكن في منازلنا وقلوبنا رغم الغبار، وهو ينتظر تلك النسمات أو الرياح التي تبدده ونصبح أمة من جديد تقود الأمم نحو عزتها وحريتها وبشريتها، أمة تبني علومها على الإيمان لا على سحق أي بصيص للإيمان في القلوب والعقول.