الخيانة هي الغدر بالأمانة. والأمانة هي الدين والطاعة والفرائض والحدود. كما فسرها ابن عباس وغيره من أهل العلم. أما الشغب والترويع والنهب والغصب والسرقة ونحو ذلك من الجرائم والمعاصي فلا يجوز لأحد أن يأتي بها بزعم الوفاء بالعهد عليها أو بالاتفاق علي فعلها» لأن هذا الاتفاق خيانة. والتكفير عنه يكون بالتحلل منه» فقد أخرج البخاري عن عائشة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه. ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه". إن كل حق تحملته فأنت مؤتمن عليه. إذا وفيته فأنت الأمين. وإذا غدرت بصاحبه فأنت خائن. مثل الموظف إذا غدر برب العمل. والمرءوس إذا غدر برئيسه. والخادم إذا غدر بمخدومه. والصاحب إذا غدر بصاحبه. والشاهد إذا غدر بالعدالة. والناصح أو الواعظ إذا غدر في نصيحته أو موعظته. ولا تطلق الخيانة إلا في مقابلة الأمانة» لاستحالة الجمع بينهما في الوجه الواحد. فإذا وجدت الأمانة انتفت الخيانة. وإذا رأيت الخيانة انتفت الأمانة. فإذا قلنا إن الموظفين والعمال في المصالح الخدمية والمؤسسات المدنية مؤتمنون علي أداء الخدمة والوفاء بحق الوظيفة المشروعة فإن اتفاق بعضهم علي الشغب والإخلال بواجبات الوظيفة يكون خيانة. والعجيب أن الشيطان كثيراً ما يزين للإنسان ارتكاب المعصية تحت اسم الوفاء بالأمانة مثل اتفاق بعض عمال المصنع أو بعض موظفي المؤسسة علي تعطيل مصالحها. أو العبث بأدواتها للوصول إلي مكاسب بالقوة والغلبة وليس بالتراضي أو طيب النفس. ويعدون هذا الاتفاق أمانة وعهداً فيما بينهم حتي ينجحوا في ظلمهم. والحقيقة أن ذلك خيانة وغدر بالاتفاق الأول الذي تعهدوا فيه علي أداء حق الوظيفة. وإذا كان لهم من مطلب زائد فيجب أن يكون بالعدل الذي يمثله القانون والقضاء أو حسن الاقتضاء بالتراضي حتي لا يكون من أكل أموال الناس بالباطل الذي نهي القرآن عنه في قوله سبحانه: "لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" "النساء: 29". وأخرج البيهقي عن أبي حرة الرقاشي عن عمه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه". وأخرجه الحاكم عن ابن عباس بلفظ: "لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه بطيب نفس منه". إن الذين يغدرون بوظائفهم بزعم الوفاء بالعهد مع الزملاء علي إحداث الشغب للوصول إلي مكاسب مادية بالغصب يلبسون الحق بالباطل. ويسمون الخيانة أمانة. فما يحققونه من مكاسب دنيوية زائلة تورث الندم. ولات ساعة مندم. وسيتحسر أصحابها» لقوله تعالي: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" "الزخرف: 67". يقول ابن كثير: أي كل صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل فإنه دائم بدوامه. وهذا ما قاله سيدنا إيراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه في قوله تعالي: "وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياه الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار وما لكم من ناصرين" "العنكبوت: 25". إن الخيانة تزيل البركة. وتذهب معية الله تعالي. فقد أخرج أبوداود والحاكم وصححه عن أبي هريرة. أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "إن الله يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه. فإذا خانه خرجت من بينهما". ويحذر القرآن الكريم من الخيانة بكل صورها فيقول سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون" "الأنفال: 27". إن الإسلام يجيز لك أن تعتدي علي من اعتدي عليك بمثله. وأن تسيء لمن أساء إليك بمثله. ولكن الإسلام لا يجيز لك بحال أن تخون ابتداء أو أن ترد الخيانة بخيانة. قال تعالي في شأن معاقبة الظالم: "فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم" "البقرة: 194". وقال سبحانه: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" "الشوري: 40". أما في شأن الخيانة فلم يرخص الإسلام في ردها ولو بأقل من مثلها. فقال سبحانه: "وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم علي سواء إن الله لا يحب الخائنين" "الأنفال: 58". يقول ابن كثير: أي من خانوك بنقض المواثيق والعهود "فانبذ إليهم" أي أعلمهم علي مهل بأنك قد نقضت عهدهم» لأن الله لا يحب الخائنين حتي في حق الأعداء. وحسبنا في ذلك ما أخرجه أبوداود والترمذي وحسنه عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "أد الأمانة إلي من ائتمنك ولا تخن من خانك". د/ سعد الدين مسعد هلالي أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر