أفاقت مصر ومعها الأمة العربية جمعاء يوم الثلاثاء الموافق 25 يناير 2011م، على صوت هتافات حناجر مئات الآلاف من المصريين المطالبين -في تظاهرات عمت جميع المدن المصرية- بالعيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية، في مشهد يعيد إلى الأذهان ما جرى من مظاهرات في تونس أدت لهروب الرئيس بن علي، وإحداث تغييرات كبيرة في بنية النظام السياسي التونسي، ذلك التاريخ وما حمله من أحداث بدأت بما اسماه المتظاهرين "يوم الغضب"، جاء مفاجئا في حجمه ومطالباته وتوقيته وظروفه وملابساته وتداعياته حتى اللحظة، ولكنه بالتأكيد يشكل علامة فارقة ليس في تاريخ مصر الحديث فحسب، بل ستثبت الأيام أن تأثيره سيطال حاضر ومستقبل المنطقة بأكملها، بما يعيد رسم خريطة التوازنات والمصالح والسياسات الداخلية لكل دولة والإقليمية والدولية. وبعيدا عن السياسة وتحليلاتها، أجدني مشدودا إلى بعض المفارقات التي ظهرت ورافقت هذه الهبة الجماهيرية الغير مسبوقة، لعلها تسهم -وإن لم تكن في أغلبها سياسية- في محاولة فهم ما جرى وتفسيره سياسيا، ورغم كون أغلب هذه المفارقات تتفاوت بين التاريخية والاجتماعية، فإنها بلا شك تتقاطع سياسيا واقتصاديا مع مجريات سير أحداث هذه الثورة- إن اتفقنا على تسميتها بهذا الاسم. ولعل أول هذه المفارقات هو اليوم الذي بدأت فيه والموافق لعيد الشرطة، فقبل ما يقارب الستين عاما وفي 1952 شهد هذا التاريخ التوقيت قيام قوة شرطة مدينة الإسماعيلية بمقاومة قوات الاحتلال الانجليزي بمنتهى البسالة ورفضوا الاستسلام وحاربوا لآخر طلقة معهم، لدرجة أكسبتهم احترام عدوهم، فما كان من الضابط البريطاني إلا أن أعطاهم التحية العسكرية تقديرا لهم ولشجاعتهم، لتخلد تضحيات الشرطة في هذه الذكرى ويحتفل جموع المصريين بهذه المناسبة باعتبارها رمزا للكرامة الوطنية. ولكن بعد ستين عاما يختلف المشهد فتوجه هذه الشرطة نيرانها تجاه أبناء وطنها، ممن خرجوا يحلمون بيوم جديد تتحقق فيه بعض المطالب التي يتمناها كل مصري، فيموت العشرات ويصاب المئات في مشهد لن تنساه الذاكرة المصرية، وهو ما سيجعل من الاحتفال بهذا اليوم تحت نفس المسمى أمرا شبه مستحيل. أما المفارقة الثانية فتأتي مرتبطة بالتطور في تكنولوجيا الاتصالات، والتي كانت سببا في تولي د.احمد نظيف لرئاسة الوزراء، بوصفه من التكنوقراط ومعروف كأصغر رئيس وزراء في تاريخ مصر، وذلك مكافأة له على ما قام به من تطوير لقطاع الاتصالات وإدخال خدمات الانترنت، حينما كان وزيرا للاتصالات والتكنولوجيا، واليوم ها هي ثورة الاتصالات تخرجه من الحكومة ومن الحياة السياسية قاطبة، في مشهد ربما يبدي عليه الكثير من الندم. وتتمثل المفارقة الثالثة في الرمزية الشعبية التي تفتقدها ثورة الجماهير المصرية قياسا بما جرى في تونس، حيث شكل محمد البوعزيزي الذي أشعل بجسده نار الثورة وشرارة انطلاقتها، رمزا لهذه الثورة، في حين تفتقد الثورة المصرية إلى هذه الرمزية الشخصية على الأقل مع اعتمادها ميدان التحرير رمزا معنويا للثورة، وكأن لسان حالها يقول: إذا كانت تونس ثورة البوعزيزي، فإن مصر ثورة التحرير. أما رابع هذه المفارقات فكان الشباب الذين هم عماد هذه الثورة وقادتها ومحركها الرئيس، سيما وأن أغلب من دعا إلى هذه الثورة هم "شباب الفيسبوك" كما اصطلح على تسميتهم، وهم في اغلبهم من الطبقة فوق المتوسطة والراقية، أي أن مطالبهم بالأساس لم تكن من البداية اقتصادية ولا تحسينية للمعيشة بقدر ما كانت مطالب سياسية، فهؤلاء الشباب شكلوا مجتمعا افتراضيا على الانترنت أشبه ما يكون بالبناء التنظيمي للأحزاب أو القوى السياسية، واستخدموه في التأطير والتنظير لوجهة نظرهم ولا يمكن القول بأن الأجهزة الأمنية كانت في غفلة عنهم أو لم تكن تعلم، ولكنها على الأرجح لم تكن تتوقع هذا القدر من التنظيم والاستجابة السريعة التي لاقتها مطالب هؤلاء الشباب من جموع المصريين، وهو ما يشكل دليلا قويا على أهمية وسائل الإعلام والاتصال بأشكالها الحديثة والمتطورة أو ما اصطلح على تسميته الإعلام الجديد. وخامس هذه المفارقات هي حالة الصدمة التي أصابت الجميع من هذه الثورة الغير متوقعة رغم العلم المسبق بالتوقيت الذي دعت إليه الجماعات الشبابية عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، فهذا الشعب المصري المسالم والمستكين والمشهور تاريخيا بتقديس حكامه منذ الفراعنة، خرج في ثورة شعبية مدوية فاجأت كل المتابعين والمحللين والسياسيين، وهو ما جعلنا نشهد في الأيام الأولى حالة من الصمت المطبق سادت المستوى الرسمي المصري وكذلك العربي الذي انتظر لتبين ملامح هذا الوافد الجديد الذي لم تعهده المنطقة العربية من قبل. وعلى خلاف المواقف الرسمية المصرية والعربية إجمالا، جاءت المواقف الغربية سريعة ومتابعة لتطورات الموقف، معلنة بشكل خافت حرصها على حفظ مصالحها ومصالح أبرز حلفائها في المنطقة، وهو ما عبرت عنه التصريحات الأمريكية والأوروبية على اختلاف مستوياتها، فلم تشغل بالها كثيرا بمصلحة الشعب المصري ولا حتى مصلحة مصر كدولة بقدر ما كان همها مصالحها واحتمالية تضررها . وسادس مفارقات هذه الثورة هو مدى التحضر والرقي الذي عكسه تعاطي المتظاهرين مع إجراءات النظام المصري، التي وصلت في كثير من الأحيان إلى البلطجة واستخدام أقسى درجات القمع والإرهاب، فبدا المشهد بين متظاهرين يحرصون رغم ما يعانونه على عدم التخريب والتصرف بسلمية ومسئولية عالية وانضباط ، في حين يبدو النظام وأعوانه هم من يخرب في مقدرات الدولة ويسعى لإحراق الأخضر واليابس، دفاعا عن مصالحه الخاصة. واعتقد أن سابع المفارقات التي يجب أن يشار إليها في هذه الثورة، هي أن معدن الشعوب العربية لازال أصيلا وراسخا، رغم ما اعتراه من صدأ راكمته سنين القهر وتغليب الذات، فبمجرد انسحاب الشرطة واتضاح سيناريو الفوضى الخلاقة الذي أريد منه شل تفكير وحركة الثورة، تداعى المصريون جميعا رجالا ونساء، أقباط ومسلمون، شيوخ وقساوسة، للدفاع عن وطنهم ومقدراتهم، متوحدين خلف شعار لطالما غُيب عنهم، مضمونه: مصر لشعبها. وأخيرا لا يمكن حصر ما يعتري هذه الثورة العظيمة من مفارقات، فلا تزال الأيام القادمة في تاريخها حبلى بالمفاجآت والمفارقات، فهذه الثورة الجماهيرية السلمية، شكلت مدخلا حقيقيا للتغيير في الوطن العربي، بعد أن رسخت قناعة الحكام والرؤساء العرب أن عدوى رفض الخنوع والسكوت عن فقدان العدالة قد أخذت في الانتقال، وأن التغيير آت لا محالة مهما بلغت محاولات قمعه أو التحايل عليه.