تدرج التفكير الصهيوني بخصوص فلسطين من اعتبارها المكان الصالح إلى اعتبارها المكان الأحسن إلى أن أصبحت المكان الوحيد لإقامة الوطن القومي اليهودي ، وعلى هذا الأساس اخذوا يرفضون أي مشروع آخر لا يسمح لهم باحتلال فلسطين ، وقد قال هرتسل في يومياته بخصوص ذلك ( أني أفكر في إعطاء الحركة الصهيونية هدفا إقليميا واترك صهيون " فلسطين " ليكون الهدف النهائي ، وربما استطعنا أن نطالب بريطانيا بجزيرة قبرص أو شبه جزيرة سيناء " فلسطين المصرية " أو جنوب أفريقيا ) وبعد المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في مدينة بال في سويسرا في الفترة من 29 – 31 /1897 بزعامة تيودور هرتسل بعد أن شعر بالإحباط بسبب عدم مساعدة أغنياء اليهود في تمويل مشروعه وحضره 204 من كبار الحاخامات ورجال المال والأعمال والاقتصاد والاستثمار والعلماء والأكاديميين ورجال القانون والتاريخ والاجتماع والجغرافية السياسية والمصارف والبنوك وأندية الروتاري والماسونية انتقلت الحركة الصهيونية من النطاق النظري إلى النطاق العملي ، وقد تمثل ذلك في السعي إلى الحصول على تعهد من إحدى الدول الكبرى بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ، ولذلك قامر هرتسل على جميع الإطماع الاستعمارية في نفس الوقت ، وتحدث مع كل شخص باللغة التي تروق له وكتب في كتابه " ألدوله اليهودية – دير يود ينشتات " الذي كتبه باللغة الالمانيه ونشره في فيينا في عام 1896 ( سنكون بالنسبة لاروبا جزء من حائط يحميها من آسيا ، وسنكون بمثابة حارس يقف في الطليعة ضد البربرية ) كما كتب إلى " سيسل رودس الذي أطلق اسمه على مستعمرة روديسيا فيما بعد " في 11/1/1902 يطلب منه دراسة مشروعه الذي استمده من نظام الشركات الاستعمارية البريطانية ويرجوه الموافقة عليه ، وكتب إلى " نيولسكي " صديق السلطان عبد الحميد الثاني المكلف بالملف الارمني في 3/5/1902 وعرض عليه الوقوف إلى جانب ألدوله العثمانية ضد الأرمن مقابل خدمات مؤكدة لقضية اليهود في فلسطين ، وإنشاء جامعة يهودية تستقبل الطلاب العثمانيين وتعلمهم ضمن أحكام بلدهم ولكن السلطان رفض وقال ( إن الإمبراطورية العثمانية ليست لي وإنما للشعب العثماني ولا استطيع أبدا أن أعطي أحدا أي جزء منها ، وليحتفظ اليهود ببلايينهم ، فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين بدون مقابل ، ولكن لن تقسم إلا على جثتنا ، ولن اقبل بتشريحها لأي سبب كان ) وأرسل رسالة بهذا الخصوص إلى جوزيف تشمبرلين رئيس وزراء بريطانيا في 12/7/1902 تتضمن مخططا لتسكين اليهود في سيناء قال فيها ( أنت أعظم قوة مؤثرة في شعبنا منذ تشرده ، وأرجو أن تكون عندك النية لعمل أمر مهم لتعسائنا ، وأنا لن أكون شديد التمسك بالمثل فقط وارفض المساعدة السريعة لأفقر فقرائنا ومهما كان شكل هذه المساعدة ، أن توطين اليهود في شرق البحر المتوسط سيقوي إمكانية الحصول على فلسطين ويحقق الهدف الإنساني والغاية السياسية بأن يكون اليهود جزء من السور الأوروبي المرفوع في وجه آسيا ، والى جانب ذلك فإن عندي مخططا ثانيا لك يمكن تحقيقه في الوقت نفسه وهو مخطط سري يتعلق بالعراق ، لقد عرض على السلطان الاستيطان في العراق ، وقد رفضت العرض لأنه لا يشمل فلسطين ، كما أن ضماناته السياسية للمستقبل قليلة ، ولكنى استطيع قبوله ما دامت علاقتنا جيدة ) ولكن " جوزيف تشمبرلين " عرض على " هرتسل " أوغندا لتكون وطنا قوميا لليهود ورفض " هرتسل "وقال ( يجب أن تكون قاعدتنا فلسطين أولا ثم فيما بعد نستطيع أن نستوطن أوغندا ) كما كتب إلى القيصر الروسي " نقولا الثاني " أشهر اللاساميين ووزير خارجيته " بلهف " المسؤول الأول عن مذابح اليهود في " كييشيف " في نيسان 1903 وقال له ( إن الصهيونية دواء مضاد للثورة ) فقال له " بلهف " ( سنشجع اليهود على الهجرة من روسيا ) ، أما " بت " وزير خارجية القيصر الروسي الاسكندر الثالث فقد قال لهرتسل ( لقد كان من عادتي أن أقول للمرحوم " الإمبراطور الاسكندر الثالث " ( لو أمكننا أن نغرق في البحر الأسود ستة أو سبعة ملايين يهودي فسأسعد بذلك تمام السعادة ) وعندما قال له " هرتسل " ( إننا ننتظر من الحكومة الروسية بعض ألوان التشجيع ) أجاب ( إننا نعطي مثل ذلك التشجيع بأن نركل اليهود بأقدامنا ) ولكن كل المحاولات التي بذلت في ذلك الوقت فشلت في الحصول على مثل هذا التصريح من الدولة العثمانية أو ألمانيا أو فرنسا أو ايطاليا أو بلجيكا أو روسيا أو بريطانيا ، واضطرت المنظمة الصهيونية إلى الانتظار حتى اجتمعت الظروف الدولية الملائمة لذلك بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى ، حيث أدركت بريطانيا مدى فائدة تهجير اليهود إلى فلسطين بالنسبة لمصالحها بشكل خاص ، ومدى الاستفادة من النفوذ الصهيوني في العالم بشكل عام ، وخاصة يهود الولاياتالمتحدة ودورهم في الضغط على الحكومة الأمريكية لتدخل الحرب إلى جانب بريطانيا ودول الوفاق ، و يهود روسيا اليساريين من اجل تغيير موقف الحكومة الروسية من الخروج من الحرب بعد قيام الثورة البلشفية ، ويهود ألمانيا لقطع الطريق على الحكومة الألمانية في السباق نحو كسب اليهود ، ووضع حد للأطماع الفرنسية في فلسطين ، وتأمين قناة السويس ، وتكريم الدكتور حاييم وايزمن أستاذ الكيمياء في الجامعات البريطانية ورئيس الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية وأول رئيس دولة في إسرائيل ومخترع القناع الواقي من الغازات السامة ومادة الأسيتون التي تدخل في صنع المتفجرات ، وذلك بالإضافة إلى الثقل المادي والإعلامي لليهود في العالم ، وهكذا ورغم معارضة اليهود اللبراليون المندمجون في المجتمعات الذين يعيشون فيها القائمة على أساس أن هذا التصريح قد يشكل سند يستغله دعاة اللاسامية ومؤشر على غربة اليهودي وعدم اندماجه أو انتمائه إلى وطن إقامته ، والى جانب إجحافه بحقوق المواطنين الأصليين في فلسطين ومصيرهم الذي انعكس على مواقف مجلس ممثلي اليهود البريطانيين والاتحاد الانجلو – يهودي بقيادة " لوسيان ولف وكلود منتفيوري " ومجلس الوزراء البريطاني الذي قاد المعارضة فيه الوزير البريطاني اليهودي " أدوين مونتاغو " انتصر ممثلي اليهود الصهيونيين في التصويت الذي جرى في مجلس ممثلي اليهود البريطانيين في 7/6/1917 ، وذهب " حاييم وايزمن واللورد روتشيلد والسير رونالد" وقابلوا " اللورد بلفور" وزير خارجية بريطانيا الاسكتلندي المثقف المولع بالكتاب المقدس والسياسي المحافظ المتشبث بالإمبراطورية البريطانية الاستعمارية إلى الحد الذي اكسبه لقب " بلفور الدامي " عندما كان حاكما لايرلندا ، وقالوا له ( أن الوقت قد حان لإعلان الحكومة البريطانية كلمتها الأخيرة ) ووعد " بلفور" أن يفعل ذلك وطلب من " حاييم وايزمن " أن يكتب البيان الذي يجب أن تذيعه الحكومة البريطانية ليعرضه على وزارة الحرب البريطانية للموافقة عليه ، وبعد بحث طويل مع " سوكولوف " اتفقنا على الصيغة وسلمناها إلى اللورد بلفور في 18/7/1917 ويستطرد " حاييم وايزمن " ولما اجتمعت الوزارة في 2/11/1917 لدراسة البيان بقيت أنا خارج دار الوزارة انتظر النتيجة وكان أول من خرج من غرفة الاجتماع " الكولونيل هاوس " الذي صاح باسما ( دكتور وايزمن ... المولود صبي ) أما " بلفور" فقد قال بعد إعلان التصريح ( انه ينظر إليه على انه أعظم عمل عمله في حياته ) وهكذا بدأت الخطة الصهيونية في مرحلة الحرب العالمية الأولى لتحقيق انتصار دول الوفاق وعلى رأسهم بريطانيا ، وان تكون فلسطين من نصيب بريطانيا ، وان تسهل بريطانيا استيطان اليهود في فلسطين ، وان ينتهي الأمر بسيطرة اليهود على فلسطين في مقابل استمرارهم في خدمة مصالح بريطانيا في حراسة قناة السويس لأنه لم يكن بإمكان الصهاينة أن يتوقعوا شيئا من الحكومة البريطانية لا يتفق مع مصالحها الإمبراطورية الفعلية أو المفترضة ، وهكذا ولد اغرب تصريح في التاريخ لأن بريطانيا قدمت من خلاله التزامات للمنظمة الصهيونية بشأن ارض الفلسطينيين في وقت كانت هذه الأرض لا تزال رسميا تشكل جزءا من الإمبراطورية العثمانية ، ولأن هذا التصريح كان لا يتفق مع روح التعهدات بالاستقلال التي قدمت للعرب قبل صدور التصريح وبعد صدوره ، ولأن التصرف في فلسطين قد تقرر بالتشاور بين بريطانيا والمنظمة الصهيونية وهي منظمة سياسية كان هدفها المعلن هو توطين غير فلسطينيين في فلسطين وهذا لم يتجاهل مصالح الفلسطينيين الوطنية فحسب ولكنه كان انتهاكا متعمدا لحقوقهم ، ولذلك فإن أهم حقيقة لا تقبل الجدل هي أن " تصريح بلفور" في حد ذاته باطل قانونيا لأنه لم يكن لبريطانيا أية حقوق سيادية على فلسطين ، ولم تكن لها أية ملكية في فلسطين ، ولم تكن لها سلطة التصرف في ارض فلسطين ، ولذلك كان التصريح مجرد بيان بالنوايا البريطانية لا أكثر